فنَفَى سبحانَهُ المَرَاتِبَ الأربعَ نَفْيًا مُرَتَّبًا مُنْتَقِلاً مِن الأَعْلَى إلى ما دُونَهُ، فنَفَى المُلْكَ، والشِّرْكَةَ، والمُظَاهَرَةَ، والشَّفاعةَ، التي يَطْلُبُها المُشْرِكُ، وأَثْبَتَ شفاعةً لا نَصِيبَ فيها لمُشْرِكٍ وهي الشَّفاعةُ بإذنِهِ.
فكفَى بهذِهِ الآيةِ نورًا وبرهانًا ونجاةً وتَجْريدًا للتَّوحيدِ، وقَطْعًا لأُصُولِ الشِّرْكِ ومَوَادِّهِ لمَنْ عَقَلهَا.
والقُرْآنُ مملوءٌ من أمثالِها ونظائرِهَا، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَشْعُرُونَ بدُخُولِ الواقعِ تَحْتَهُ وتَضَمُّنِهِ لَهُ، ويَظُنُّه في نوعٍ وقومٍ قَدْ خَلَوا مِن قبلُ ولم يُعَقِّبُوا وارِثًا، وهذا الَّذي يَحُولُ بينَ القَلْبِ وبينَ فَهْمِ القرآنِ، ولَعَمْرُ اللهِ إنْ كانَ أولئك قد خَلَوا، فقد وَرِثَهُم مَن هو مثلُهُم وشرٌّ منهم ودونَهُم، وتَنَاوُلُ القرآنِ لهم كتَنَاوُلِهِ لأولئك، ولكنَّ الأمرَ كمَا قالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنَّما تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوةً، إذا نَشَأَ في الإِسْلامِ مَنْ لم يَعْرِفِ الجاهليَّة).
وهذا لأنَّهُ إذا لم يَعْرِفِ الجاهليَّةَ والشِّرْكَ، وما دَعَا بهِ القرآنُ وذَمَّهُ، وَقَعَ فيه وأَقَرَّهُ، ودَعَا إليه وصَوَّبَهُ وحَسَّنَهُ، وهو لا يَعْرِفُ أنَّهُ الَّذي كانَ عليهِ الجاهليَّةُ، أو نَظِيرُهُ أو شرٌّ منه أو دونَهُ، فتُنْتَقَضُ بذلك عُرَى الإسلامِ، ويَعُودُ المَعْرُوفُ مُنْكَرًا، والمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، والبِدْعَةُ سُنَّةً، والسُّنَّةُ بدعةً، ويَكْفُرُ الرَّجُلُ بمَحْضِ الإيمانِ وتَجْريدِ التَّوحيدِ، ويُبَدَّعُ بتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومُفَارَقَةِ الأَهْواءِ والبِدَعِ. ومَنْ لَهُ بَصِيرةٌ وقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذلك عِيانًا، فاللهُ المُسْتَعَانُ.
- وَقَالَ اللهُ تَعَالى حَاكِيًا عن أَسْلاَفِ هؤلاء المُشْرِكينَ: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزُّمَر:3] فهذه حالُ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ وليًّا يَزْعُمُ أنَّهُ يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ تعالى، وما أَعَزَّ مَن يَخْلُصُ مِن هذا، بلْ ما أَعَزَّ مَن يُعَادِي مَن أَنْكَرَهُ.
والذي في قُلُوبِ هؤلاءِ المُشْرِكينَ وسَلَفِهِم أنَّ آلهتَهُم تَشْفَعُ لَهُم عندَ اللهِ، وهذا عَيْنُ الشِّرْكِ.
وقد أَنْكَرَهُ اللهُ عليهِم في كتابِهِ، وأبطَلَهُ، وأَخْبَرَ أنَّ الشَّفَاعَةَ كلَّها لَهُ، وأنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إِلاَّ لمَنْ أَذِنَ اللهُ تعالى أنْ يَشْفَعَ له فيه، ورَضِيَ قولَهُ وعَمَلَهُ. وهم أَهْلُ التَّوحيدِ الَّذينَ لم يتَّخِذُوا مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فإنَّهُ سبحانَهُ وتعالى يَأْذَنُ في الشَّفَاعةِ فيهم لمَنْ يَشَاءُ، حَيْثُ لم يتَّخِذُوهُم شُفَعاءَ مِن دونِهِ، فيكونُ أَسْعدُ النَّاسِ بشَفاعتِهِ مَن يَأْذَنُ اللهُ تعالى لَهُ، صاحبَ التَّوحيدِ الَّذي لم يتَّخِذْ شَفِيعًا مِن دونِ اللهِ.
والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللهُ تعالى ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الشَّفاعةُ الصَّادِرَةُ عن إذْنِهِ لمَنْ وَحَّدَهُ، والتي نَفَاهَا اللهُ تعالى هي الشَّفاعةُ الشِّرْكيَّةُ التي في قُلُوبِ المشركينَ المتَّخِذِينَ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فيُعَامَلُونَ بنَقِيضِ مَقْصُودِهِم مِن شَفَاعتِهِم، ويَفُوزُ بها المُوحِّدُونَ) انتهَى.
وقال في الصواعق المرسلة: (والله سبحانه حاجَّ عبادَه على ألسنِ رسلِه وأنبيائه فيما أراد تقريرَهم به وإلزامَهم إيَّاه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولاً وأقلها تكلفاً وأعظمها غَناءً ونفعاً، وأجلها ثمرة وفائدة.
فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه جمعت بين كونها:
-عقلية سمعية.
-ظاهرة واضحة.
-قليلة المقدمات.
-سهلة الفهم.
-قريبة التناول.
-قاطعة للشكوك والشُّبَه.
-ملزمة للمعاند والجاحد.
ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخُ، ولعموم الخلق أنفع.
¥