وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقه وأدله على المراد.
وذلك مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم مواده كلها:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)
فتأمَّلْ كيف أخذَتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك؟!!
وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؟!!
فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به.
وحينئذ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ:
-مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده.
-أو شريكاً لمالكها.
-أو ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له.
-أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده.
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض.
فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق!
فنفى شركتها له.
فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً!
فقال: (وماله منهم من ظهير)
فلم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم.
وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها.
وأما منْ كلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!!).