لقد اتفق العلماء الذين قالوا بصحة حديث عبد الله بن بسر في النهي عن صيام السبت على حمل هذا النهي على الكراهة، وقالوا أن سبب الكراهة الذي تزول الكراهة بزواله، هو تخصيصه بالصيام لأن اليهود يعظمونه، أو صيامه منفرداً، أو أن لا يوافق صومه عادة للصائم، أما العلامة الألباني رحمه الله فقد قال بحرمة صيام السبت في غير الفرض مطلقاً، ولم أجد من سبقه إلى هذا القول.
و سوف نتعرف أولاً على حجج القائلين بالكراهة ثم نعود لمناقشة ما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله.
حجج القائلين بالكراهة:
لقد حمل حديث عبد الله بن بسر في طياته نهياً صريحاً عن صيام السبت في غير الفرض و هو قوله عليه السلام (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) و أُكِّدَ هذا النهي وغُلِّظَ بتتمة الحديث (وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه).
وهذا النهي يتناول كل صور صيام السبت إلا ما استثناه الحديث وهو صيامه في الفرض فيدخل في النهي قصده بالصوم بعينه وكذلك صومه منفرداً أو مقروناً بغيره وكذا موافقة صيامه لعادة وغير ذلك، فما الذي حمل الأئمة الذين قالوا بكراهة صومه منفرداً أو كراهة تخصيصه بالصيام على إخراج الصور الأخرى من الكراهة؟
وأيضاً فما الذي جعل أولئك الأئمة يعدلون عن القول بالحرمة إلى القول بالكراهة؟
أما السؤال الأول فقد ذكر ابن القيم رحمه الله حجة من أخرج بقية الصور من النهي فقال في تهذيب السنن ج7/ 51:
( ... الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخِرجت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مُخرَجٌ، أما الفرض فبالمُخِْرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمُخِْرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مُخِْرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها)
أي أن حديث النهي عام يشمل كل صور صيام السبت إلا صيامه في الفرض فهذه الصورة خرجت بالاستثناء الوارد في الحديث فهذا هو المُخِْرج المتصل، أما صورة صيامه مقترناً بغيره فخرجت من عموم النهي بالمُخِْرج المنفصل وهو أحاديث إباحة صيام السبت مقروناً بغيره أو صيامه إذا وافق عادة كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فتكون هذه الأحاديث قد خصصت عموم حديث النهي، و لا يبقى سوى صورة صيام السبت منفرداً لأنها داخلة في عموم حديث النهي و لا مُخِْرج لها منه. وكلامهم هذا هو من باب حمل العام على الخاص وهو من طرق الجمع بين الأدلة، و الجمع مقدم على الترجيح.
ولهم مسلك آخر في الجمع بين هذه الأحاديث نقله ابن القيم أيضاً قبل الكلام السابق، و ذلك بحمل حديث النهي على معنىً معينٍ، فقال:
( ... فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت ـ كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت ـ فإنه يصومه وحده، وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك)
و أما السؤال الثاني فإن الذي حملهم على القول بالكراهة دون الحرمة هو الكثرة المتكاثرة من الأحاديث المبيحة لصيام السبت إما بالنص عليه أو بدخوله تحت عموم الحث على الصيام مطلقاً أوالحث على صيام أيام قد يكون السبت واحداً منها. فورود هذه الأحاديث الدالة على الإباحة أضعفت دلالة حديث النهي على التحريم ونقلتها إلى الكراهة، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج27/ 201:
(المقرر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاضٍ بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة)
فمن تلك الأحاديث:
• حديث (من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، والسبت داخل في عمومه.
• حديث (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه، والسبت داخل في عمومه.
• حديث (الصيام جُنَّة) متفق عليه. والسبت داخل في عمومه.
• حديث (عليك بالصوم فإنه لا مثل له). رواه النسائي وصححه الألباني. والسبت داخل في عمومه.
¥