إذا تقرر ذلك فمعلوم أن الترجيح لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، قال الشوكاني في إرشاد الفحول276:
" ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه و لم يجز المصير إلى التراجيح"
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم 3/ 155:
" ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها"
وقد سبق قول الشيخ رحمه الله أن طريقة الجمع التي ذكرها ابن القيم في التهذيب جيدة ولكن يعكر عليها أمران أولهما: المخالفة الصريحة لحديث النهي، و الثاني: ورود القاعدتين المذكورتين. وقد مرت معنا قبل قليل طريقتان في الجمع تخلوان من المحذور في الأمر الأول الذي ذكره الشيخ، وهما: الطريقة التي حمل بها العام على الخاص، والطريقة التي حمل فيها النهي على قصد صوم السبت بعينه، فإذا كانت هاتان الطريقتان خاليتين من هذا المحذور كما ذكرنا فلا يبقى مجال للأمر الثاني الذي ذكره الشيخ، أعني به إعمال القاعدتين الأصوليتين: تقديم الحاظر على المبيح وتقديم القول على الفعل.
بعبارة أخرى فأنت أيها القارئ الكريم إذا كنت مقتنعاً بأن هاتين القاعدتين هما من قواعد الترجيح لا الجمع كما هو مبين في محله من كتب أصول الفقه، وكنت مقتنعاً كذلك بأن الجمع مقدم على الترجيح وهو كذلك بلا ريب، فيجب عليك عندما تمعن النظر في طريقتي الجمع اللتين ذكرناهما آنفاً أو غيرهما أن تخلي ذهنك عن هاتين القاعدتين وعن كل قواعد الترجيح، فلا يكون المانع لك من تقبل طريقة الجمع هذه أو تلك هو أن تقول: الجمع بهذه الطريقة غير صحيح لأنه مُعارَضٌ بقاعدة الحاظر مقدم على المبيح أو قاعدة القول مقدم على الفعل، والسبب هو أنهما من قواعد الترجيح فلا يصح أن تُعارَضَ طريقة من طرق الجمع بأي قاعدة من قواعد الترجيح، لأننا بذلك نكون قد قدمنا ما حقه أن يؤخر و أخرنا ما حقه أن يقدم.
نعم لو أننا حاولنا الجمع بكل طرق الجمع الممكنة فتعذر ذلك لكون الجمع غير ممكن بواحدة من هذه الطرق، لا لوجود قاعدة من قواعد الترجيح تعارضها، فحينئذ ـ لا قبل ذلك ـ يمكن الانتقال للترجيح و ذلك بإعمال قواعد الترجيح المناسبة.
الإشكال الثالث
الحاظر مقدم على المبيح
هذه القاعدة هي أقوى حجة للشيخ رحمه الله في قوله بحرمة صوم السبت في النفل مطلقاً، و رغم أنني أرى أن ما ذكر في الإشكالين السابقين يغني عن الكلام حول هذه القاعدة إلا أنني فضلت الكلام كي يزول الشك عند من لم يرض بما قيل آنفاً، ويمكن طرح الإشكال حولها كما يلي:
1. هذه القاعدة من قواعد الترجيح وليست من قواعد الجمع والتوفيق، و القول بالترجيح يعني إعمال الدليل الذي رجحناه و ترك العمل بالدليل المرجوح، لذلك لا يصار إلى الترجيح إلا بعد تعذر الجمع، لأنه كما قيل الإعمال مقدم على الإهمال، لأن في الجمع عملاً بالدليلين الشرعيين الصحيحين بينما الترجيح يؤدي لإهمال العمل بأحدهما.
قال الشوكاني في الإرشاد 276: " قال في المحصول: العمل بكل منهما من وجه، أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر، انتهى. وبه قال الفقهاء جميعاً" وتقدم قول الشوكاني أنه لا يجوز المصير إلى الترجيح إن أمكن الجمع.
2. لو سلمنا بتعذر الجمع وأن المصير للترجيح، فإن للترجيح شروطاً، من بينها التساوي في القوة كما ذكر الشوكاني في الإرشاد، فهل حديث النهي مساوٍ في القوة لأحاديث الإباحة؟ إن أقصى ما يقال في حديث النهي أنه على شرط البخاري كما قال الحاكم، بينما أحاديث الإباحة منها ما هو متفق عليه ومنها ما انفرد به البخاري أومسلم وقد قال النووي في التقريب: " الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري و مسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم مسلم، ثم على شرطهما، ثم على شرط البخاري، ثم مسلم، ثم صحيح عند غيرهما" قال السيوطي في التدريب: " فائدة التقسيم المذكور تظهر عند التعارض والترجيح " وقد ذكر أبو زهرة رحمه الله في "أصول الفقه" أن علماء الحديث مجمعون على ما ذكره النووي آنفاً، ثم قال: وقال جمهور الفقهاء: أنه يقدم بعد ذلك ما كثر رواته ... إلخ. إذاً إن كان لا سبيل إلى الجمع فالمقدم هو أحاديث الإباحة لما سبق، بقطع النظر عن الحاظر والمبيح، والقول والفعل وغيرها من قواعد الترجيح
¥