إلا أنه رحمه الله قد عد لاحقاً الجمع بين حديث النهي و أحاديث الإباحة بالطريقة التي ذكرها ابن القيم في تهذيب السنن جيداً، قال: (لولا أمران اثنان: الأول: مخالفته الصريحة للحديث على ما سبق نقله عن ابن القيم. والآخر: أن هناك مجالا آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أردنا أن نلتزم القواعد العلمية المنصوص عليها في كتب الأصول ومنها: أولاً: قولهم: إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح. ثانياً: إذا تعارض القول مع الفعل قدم القول على الفعل) ا. هـ من تمام المنة 407
وبناء على ذلك وعلى أمور أخرى ذكرها متفرقة في الأشرطة قال الشيخ رحمه الله بحرمة صوم السبت في غير الفريضة مطلقاً، وسوف أعرض فيما يلي ما بدا لي أنها إشكالات على كلامه رحمه الله، فإن كانت صواباً فمن الله وحده وإن كانت الأخرى فأنا راجع عنها إن شاء الله.
الإشكال الأول
بالنسبة للأمر الأول الذي ذكره الشيخ رحمه الله في تمام المنة فإن ابن القيم رحمه الله قد ذكر طريقتين للجمع بين حديث النهي و أحاديث الإباحة، الأولى عن المتقدمين من أصحاب أحمد كالأثرم، قال في تهذيب السنن ج7/ 49:
(يقال يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص، وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافاً لأن الاستثناء دليل التناول وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده كما قال في الجمعة) فهذه الطريقة يمكن أن ينطبق عليها ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله من مخالفة صريحة لحديث النهي، لأن هذه الطريقة تقصر دلالة حديث النهي على النهي فقط عن صيام السبت وحده و أنه لا يتناول بقية صور صوم السبت، ولهذا لم يقبلها الأثرم ومن وافقه، وهذا ما حمل ابن القيم على القول بعد ذلك مباشرة (فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية عُلِمَ تناول النهي لما قابلها [أي كل صورصوم السبت في النفل] وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها كقوله في يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ [أي لمخالفته لتلك الأحاديث])
أما الطريقة الثانية وهي طريقة المتأخرين من أصحاب أحمد ففيها أكثر من مسلك فمن هذه المسالك قولهم الذي نقله ابن القيم في التهذيب ج7/ 51:
(قالوا وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخرِجَت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مُخْرَج، أما الفرض فبالمُخِْرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمُخِْرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مُخِْرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها) ا. هـ
وليس في هذا المسلك مخالفة لحديث النهي لأنه من باب حمل العام على الخاص كما تقدم.
ومن هذه المسالك أيضاً حمل النهي في الحديث على قصد صوم السبت بعينه، قال ابن القيم في التهذيب ناقلاً هذا المسلك
(لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض) ا. هـ، وهو ما عبر عنه الترمذي بقوله (ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام) وقد أقره الشيخ رحمه الله على هذا المعنى في الإرواء كما تقدم، ولفظ الحديث يحتمله، فليس في هذا المسلك أيضاً مخالفة لحديث النهي، فهو من باب حمل الحديث على معنىً يقبله النص و يزول به ما يظهر من تعارض بين الأدلة.
وكلا المسلكين، أعني حمل العام على الخاص، و حمل الحديث على معنىً معينٍ لا يأباه لفظه، من طرق الجمع بين الأدلة وهو مقدم على الترجيح، والله أعلم.
الإشكال الثاني
وهو قول الشيخ رحمه الله أن هناك مجالاً آخر للتوفيق والجمع بين الأحاديث وذلك باستخدام قاعدتين من قواعد أصول الفقه، أولاهما الحاظر مقدم على المبيح، والثانية القول مقدم على الفعل.
وسبب الإشكال هو أن هاتين قاعدتين من قواعد الترجيح وليستا من قواعد الجمع، فكيف يكون إعمالهما " مجالاً آخر للتوفيق والجمع "؟
¥