هذه هي القاعدة الثانية التي اعتمد عليها الشيخ رحمه الله في تقديم حديث النهي على بقية الأحاديث، وقد كفانا الشيخ رحمه الله الرد عليها حيث قال في تمام المنة (ومن تأمل في تلك الأحاديث المخالفة لهذا [أي حديث النهي] وجدها على نوعين: الأول: من فعله صلى الله عليه وسلم وصيامه. الآخر: من قوله صلى الله عليه وسلم كحديث ابن عمرو المتقدم [و هو نفس حديث جويرية].
ومن الظاهر البين أن كلاً منهما مبيح، وحينئذ؛ فالجمع بينهما وبين الحديث يقتضي تقديم الحديث على هذا النوع لأنه حاظر، وهي مبيحة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجويرية «أتريدين أن تصومي غداً»، وما في معناه مبيح أيضا، فيقدم الحديث عليه.
هذا ما بدا لي، فإن أصبت فمن الله، وله الحمد على فضله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفره من ذنبي.)
إذاً فمرجع الأمر لقاعدة الحاظر مقدم على المبيح وقد تقدم الكلام عليها.
الإشكال الخامس
صيام يوم الإثنين والخميس إذا وافق يوم عيد
وهذا تابع لقاعدة الحاظر و المبيح، وملخصه أن الشيخ رحمه الله قد ألزم القائلين بكراهة إفراد السبت بالصيام، بتقديم الحاظر في هذه المسألة على المبيح والقول بالتالي بحرمة صيام السبت في غير الفريضة بناء على كونهم يقولون بحرمة صوم يوم العيد إذا صادف يوم إثنين أو خميس وهما يومان يستحب صومهما، وما ذلك إلا تطبيقاً منهم لقاعدة الحاظر مقدم على المبيح كما صرحوا بذلك، إذ إن يوم العيد منهي عن صيامه، فكما قدم النهي هنا على إباحة أو استحباب صيام الإثنين والخميس فكذلك يقدم نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم السبت على إباحته صيامه، والجواب عن ذلك هو أن النهي عن صيام يومي العيد يفارق النهي عن صيام السبت من وجوه، فمنها:
1. كل من يومي العيد لا يمر سوى مرة واحدة في العام وقد يصادف يوم إثنين أو خميس و قد لا يصادفه فاحتمال حدوث تعارض بين النهي عن صيام يومي العيد وإباحة صيام الإثنين أو الخميس احتمال ضعيف لا يزيد عن مرتين في العام و قد يكون معدوماً، بينما التعارض بين النهي و الإباحة في صيام السبت يتكرر كل أسبوع كما لا يخفى.
قال الشيخ رحمه الله في الشريط 380: صوم الإثنين والخميس أمر عام أي كلما تردد يوم الإثنين بتردد الأسبوع وكذلك الخميس، استحب للمسلم أن يصومهما فكأن هذا نص عام فإذا جاء النهي [أي عن صومهما يوم العيد] فذلك من باب الاستثناء للقليل من الكثير و هذا من جملة الطرق التي يوفق العلماء بها بين الأحاديث التي يظهر التعارض بينها أحياناً، إذاً الأصل الحض على صوم يوم الإثنين والخميس فإذا تعارض هذا الأصل مع نهي عارض ـ هنا يعرض يوم السبت وهناك يعرض يوم العيد ـ فقدمنا العارض على الأصل جمعاً بين النصوص، لهذا أنا أقول بأنه لا إشكال إطلاقاً في إعمال هذا الحديث [حديث النهي عن صوم السبت] على عمومه.
الجواب: * استثناء القليل من الكثير ينطبق على العيد فهو قليل والإثنين أو الخميس كثير فالنهي عن صيامهما إذا وافقا يوم عيد نهي عارض كما ذكر الشيخ، أما النهي عن صوم يوم السبت فليس عارضاً لأنه يتكرر كل أسبوع فيتعارض النهي و الإباحة كل أسبوع، فلا ينطبق عليه استثناء القليل من الكثير.
* تقديم العارض على الأصل هو من باب الترجيح أيضاً و ليس من باب الجمع والتوفيق، فلا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو غير متعذر.
2. من أثر الفرق السابق أن المعارضة بين النهي والإباحة في السبت قوية، بينما المعارضة بينهما في مثال العيد لا تكاد تذكر، وهذا ما جعل العلماء يبحثون عن أدنى قدر ممكن لدرء هذا التعارض بالنسبة ليوم السبت لعظم أثر هذا التعارض، بينما أثره في مثال العيد لا يكاد يذكر.
3. يمكن القول أن القول بحرمة صيام الإثنين أو الخميس إن صادفا يوم عيد ليس من قبيل تقديم الحاظر على المبيح وهي من قواعد الترجيح، بل من باب تخصيص العام، وهو من طرق الجمع المقدم على الترجيح، فأدلة إباحة صيام الإثنين و الخميس عامة تشمل كل إثنين وخميس، أما أدلة النهي عن صيام العيد فخصصت ذلك العام، فأخرجت صورة موافقة الإثنين أو الخميس ليوم العيد من الإباحة إلى التحريم، فاتفق قدراً أن كان المخصص حاظراً و العام مبيحاً، و أما في مسألة صوم السبت فالعام هو الحاظر والمخصص هو المبيح.
¥