- تأصيل المتن: أي البحث عن أصوله الخطية والمقابلة بينها والتنبيه على ما بينها من اختلافات والزيادات والنقصان ..
- قراءة النص قراءة صحيحة سليمة، وتصحيحه بناء على الضوابط اللغوية المتعارف عليها خطا ونحو ولغة.
غير أن تطبيق هذين الأمرين وما يتفرع عنهما من خطوات منهجية ليس أمرا سهلا ميسرا لجميع الذين تصدوا له، بل إن كثيرا ممن ركبوا متن التحقيق لم تستو أرجلهم على ركابه بل حرن بهم وألقاهم من على ظهره، ومرد ذلك إلى أمور عدة أبرزها أن النص المحقق نص ينتمي إلى مرحلة من الماضي وبينه وبين المتصدين لتحقيقه مسافات زمنية قد تؤدي إلى عدم الفهم وغلط التصحيح، وذلك أن:
* لكل من النص ومحققه أطر مرجعية مختلفة، إذ إن نصوص التراث أنتجت لتستجيب لواقعها وللإشكالات التي طرحت فيه، بينما يعيش المتصدي للتحقيق واقعا آخر وقضايا أخرى، وهذا قد يؤدي - إذا لم ينتبه المحقق - إلى تحميل النص ما لا يحتمل ولي عنقه ليقول ما لم يقصد.
* للنص لغته الرائجة في عصره ومصطلحاته المتعلقة بمجاله المعرفي، ولا يمكن للمحقق أن يفهم النص دون أن ينتبه إلى التحولات التاريخية للغة ودون أن يعتكف على اكتشاف لغة كاتب النص وعصره حتى يستطيع التعامل مع النص بسلاسة ويسر.
إن الأساس الذي يقوم عليه تحقيق النص التراثي أولا هو الجانب اللغوي، وهذا ما عده الدكتور الشاهد البوشيخي أحد الأركان الثلاث التي يقوم عليها البحث في التراث فجعله الركن الثاني، قال:
«نصوص موثقة المتن، أي موثقة العبارة التي صدرت عن أصحابها، أي محققة، وذلك لضبط الأحكام عليها والاستفادة منها انطلاقا من حدود عبارتها، لئلا يقوّل قائل ما لم يقل، فيقَّول بتقويله عصر، أو مصر، أو اتجاه، أو غير ذلك، وليلا يبني بان بناءه على ما لم يصح، بسبب تصحيف أو تحريف أو بتر، أو غير ذلك فيفسد التاريخ والواقع معا. ([7])
كما جعل الدكتور البوشيخي الجانب اللغوي لتحقيق النصوص التراثية أحد الجوانب الأساسية لمعضلة التعامل مع التراث من خلال وجهين من الأوجه السبعة لتلك المعضلة في نظره، وهما:
"- وجه فهم ألفاظه اللغوية والاصطلاحية، إذ هو تراث قرون وقرون، والمعاجم اللغوية –على كثرتها- اهتمت، أو كادت لا تهتم، إلا بلغة بعض القرون، وهو تراث أعلام ومدارس واتجاهات، وعلوم وفنون وصناعات، ولكل صناعة ألفاظ ولكل قوم ألفاظ .. والمعاجم الاصطلاحية - على قلتها - لم تعن أو كادت لا تعنى إلا برأي الجمهور في اصطلاحات العلوم والفنون، وحتى الآن لمّا ينجز المعجم التاريخي للغة العربية ..
- وجه فهم مقاله في إطار مقامه زمانا ومكانا، ومخاطَبا ومخاطبا؛ فكما أنه عند البيان لكل مقال مقام؛ فكذلك عند التبيين لكل مقال مقام، وقياسا على بلاغة البيان يجوز القول ببلاعة التبيين، ولا حظ في الفهم والوصل لمن أقام منهج تبيينه أو قراءته – بلغة بعض أهل العصر- على القطع أو العزل." ([8])
من خلال كل ما مر نرى أن عمل التحقيق اشتغال لغوي أساسا، ينبغي لمن يتصدى له أن يتوفر على جملة شروط في إلمامه باللغة وفي تعامله مع لغة المخطوط قراءة وتصحيحا وتعليقا.
2 – المحقق والمعرفة اللغوية:
إذا رجعنا الكتب والدراسات المعالجة لتحقيق النصوص التراثية وجدناها تذكر الخطوات المنهجية اللازمة لإخراج النصوص وتصحيحها بدءا بجمع الأصول الخطية للكتاب وانتهاء بوضع الفهارس، وقل أن تجد كتابا منها يرشد إلى ما ينبغي توفره في المحقق من شروط المعرفة والاطلاع العلمي حتى يكون إقدامه على معالجة التراث مقبولا ومؤديا إلى أفضل النتائج، ومن أبرز هذه الشروط المعرفة اللغوية الكافية المؤهلة للتعامل مع النصوص التراثية، ولعل سبب إغفال الدارسين ذكر هذه الشروط – وغالبهم من المتمرسين في التحقيق- هو كونها من المسلمات، ولا تذكر إلا في سياق نقد أعمال التحقيق والتعليق على الزلات والأخطاء التي ترد فيها ومن أبرزها الأخطاء اللغوية. غير أنه في السنوات الأخيرة كثر اشتغال غير الأكفاء بالتحقيق ونشر النصوص التراثية، وظهرت في المكتبات كتب لا علاقة لها بالتحقيق إلا ما كان من إلصاق أصحابها أنفسهم بالمحققين قسرا، مما أوجب النظر في الأمور البدهية والتوقف عند ما اعتبره العلماء المحققون من المسلمات، فما هي المعرفة اللغوية التي لابد من توفرها عند المتصدي للتحقيق لكي
¥