يستطيع النجاح في مهمته ويخرج إلى الناس بنصوص تراثية أجاد في تصحيحها وتوثيقها والتعليق عليها؟
أ – المعرفة بالخط:
الخط لسان اللغة الناطق بأسرارها الرامز لأغراضها المعبر عن معاني ألفاظها، وكل ما كان الخط واضحا بينا كان أسهل تبليغا للمعاني وأيسر تقديما للمضامين، وقد نوّه الأقدمون بجودة الخط، وامتدحوا الخط الجميل البين، حيث "إن تحقيق الخط وتجويده ليزيدان الخط والكتابة وضوحا وبيانا، ويبعدان بوادر الوهم والتصحيف، ولذلك كره المحدثون المشق في الكتابة لما يترتب عليه من تضييع معالم الخط وتوسيع دائرة احتمال الكلمة لعدة قراءات." ([9]) قال أبو بكر الصولي:
"ومن فضل حسن الخط أنه يدعو الناظر إليه إلى أن يقرأه، وإن اشتمل على لفظ مرذول ومعنى مجهول، وربما اشتمل الخط القبيح على بلاغة وبيان فوائد مستظرفة، فيرغب الناظر عن الفائدة التي هو محتاج إليها لوحشة الخط وقبحه" ([10])
وقد نص المحققون أن من أبرز الشروط الواجب توفرها في المتصدي لتحقيق معرفة أنواع الخطوط كالمشرقي والمغربي من جهة ومعرفة تطور الخط من جهة ثانية في كل صقع وناحية، إذ ليس الخط المغربي جنسا واحدا موحدا بل هو أنماط متعددة وأنواع مختلفة منها البدوي والحضري والمجوهر والمبسوط .. وغير ذلك، وفي كل صنف من هذه الأصناف تفريعات وأصناف وكيف لا وقد يختلف خط الكاتب الواحد من شبابه إلى كهولته. وتبعا لذلك لا يكفي المتصدي للتحقيق بمعرفة تاريخ الخط العربي وأنواعه بل لابد له من التمرس بخط الناسخ أو النساخ الذين يتعامل معهم بالتأمل في الخط ودراسته ومحاولة تكوين معجم لأسلوبه في الكتابة، حتى يستطيع فك الكلمات أو العبارات المستغلقة التي قد يجدها في النص، وذلك بناء على أسلوب المقارنة والموازنة، قال الدكتور الصادق عبد الرحمان الغرياني:
" لابد من المران على الخطوط في النسخ المراد تحقيقها، فإن لكل كاتب طريقته في رسم الحروف من حيث إعجامها وهيآتها، وتمييز المتشابه منها، ولا يكتسب العلم بتمييزها إلا بكثرة النظر وترداده في النص المكتوب، ومقارنة ما يشكل منه بأصل آخر، حتى تحصل الألفة بالخط، والتعود على شكل الحروف وتراكيبها، وبذلك يتم التغلب على كثير من قراءة الكلمات التي تبدو صعبة في أول النظر" ([11])
إضافة إلى ذلك وجب الانتباه إلى اختلاف رسم الخط عبر العصور فإن النساخ لا يحترمون قواعد الإملاء المقررة عند اللغويين فعند المغاربة مثلا يهمل عادة إثبات الهمزة في الكلام اقتفاء للحجازيين، وعملا بما في تلاوتهم للقرآن على قراءة ورش، ([12]) أو يهمل رسم الهمزة في آخر الكلمة مما يجعلها تلتبس بكلمة أخرى مثل كلمتي سماء وسما. وقد يكون ذلك لضعف معرفة الناسخ بقواعد الإملاء فيخلط في الكتابة.
زيادة على ذلك وضع علماء الحديث ألفاظا مختصرة للدلالة على كلمات يكثر ورودها في كتبهم واتبعهم المؤلفون، فكثر تداول تلك المختصرات مما يجعل المحقق حريا بمعرفتها والرجوع إلى الكتب المفصلة لها، إلى ذلك نذكر الرموز التي درج العلماء على إيرادها في الكتب إشارة لتصحيح أو لزيادة أو لإلحاق أو تضبيب، وهي مما ينبغي كذلك التفقه فيه حتى تسلم القراءة وصحة الفهم.
ومما تنبغي الإشارة إليه أن أكثر ما ذكرناه هنا لا يكتسب إلا بالممارسة الدائبة، فلا يوجد مجموعا في كتاب، بل هو متفرق في كتب كثيرة وأغلبه في صدور المحققين المهرة، وما أجدر هذا الجانب أن يؤلف فيه معجم يجمع متفرقه ويلم شعته، ولا يتم الانتباه إلى هذا الجانب خاصة المتعلق بأنواع الخط وأشكال الإملاء لأن غرض المحقق استخراج النص فإذا فعل وطبع الكتاب أهمل المخطوط وترك ولم يستفد مما فيه من أنواع الخطوط وأصناف الأشكال.
ومن الجوانب المتعلقة بالخط ظاهرة التصحيف والتحريف التي أولاها المحدثون عناية خاصة وقرروا ضوابط وخطوات لمكافحتها ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد، وألفوا كتبا كثيرة في بيانها وقد أورد الأستاذ جمال أسطيري ثلاثين عنوانا منها بدءا بكتاب الرد على أبي عبيدة في غريب الحديث لأبي سعيد المكفوف (ت 282ه) وانتهاء بابن كمال باشا (ت940ه) في كتابه التنبيه على غلط الجاهل والنبيه. ([13])
التي لا يخلو منها كتاب مخطوط لأسباب عديدة، ذكر منها الأستاذ محمود محمود الطناحي عشرة أسباب من واقع تجربته الشخصية، وهي:
¥