قول الإمام أبي حنيفة قدّس اللَهُ روحه: قال البيهقي: حدثنا أبو بكر بن الحارث الفقيه قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر قال: حدثنا يحيى بن يعلى قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أولَ ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهماً، فدخلت الكوفة، فقيل لها: إن ها هنا رجلاً قد نظر في المعقول يقال له: أبو حنيِفة، فَأْتِيهِ، فأتته، فقالت: أنت الذي تعلّم الناس المسائل وقد تركت دينك؟ أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتاباً: إنّ اللَهَ سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قولَ اللّه تعالى: " وهوَ مَعَكُم " قال: هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت عنه غائب.
قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فيما نفي عن اللّه تعالى وتقدّس من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع في قوله: إنّ اللَّهَ عزَّ وجَلّ في السماء.
قال شيخ الإسلام: وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رواه بإسناد عن أبي مطيع البلخيِ الحكم بن عبد الله قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر قال: لا تكفر أحداً بذنب، ولا تنفي أحداً من الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من إحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توالي أحداً دون أحد، وأن ترد أمر عثمان وعلي رضي اللّه عنهما إلى اللّه تعالى.
وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجلُ كيف يعبد ربَّه عز وجل خير من أن يجمع العلم الكثير.
قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: يتعلّم الرجلُ الإيمانَ والشرائع والسننَ والحدودَ واختلافَ الأئمة ...
وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، ثم قال: فقلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج عن الجماعة؟ هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولمَ وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ فقال: كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلال الحرام ... وذكر الكلامَ في قتال الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة: ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن اللّه تعالى يقَول: " الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى " سورة طه آية 5. وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدْعى من أعلى لا من أسفل.
وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أمَ في الأرض؟ قال: فقد كفر، لأن اللَّهَ يقول: " الرحمن على العرش استوى " سورة طه آية 5. وعرشه فوق سبع سموات.
قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟.
قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
وروي هذا عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناده.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد رحمه الله تعالى: ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة رحمه اللّه عند أصحابه أنه كَفَّرَ الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " قال: وعرشه فوق سبع سموات وبيّن بهذا أن قوله: " الرحمن على العرش استوى " بيّن في أن اللّه عز وجل فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش، ثم أردف ذلك بكفر من توقّف في كَوْنِ العرش في السماء أو في الأرض، قال: لأنه أنكر أن يكون في السماء، وأن الله في أعلى عليين، وأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل، واحتج بأنّ اللّه في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإنّ القلوبَ مفطورةٌ على الإقرار بأنّ الله عز وجل في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف، وهشام بن عبيد اللّه الرازي.
¥