لكن أبا حيان يأبى إلا أن يكون في تصوفه كما كان في أدبه وثقافته صاحب رأي، وصاحب شخصية متميزة، ولهذا لم يتصوف تصوفاً عامياً أو شعبياً، ولم يتصوف تصوف الذين يمسهم (الجذب) وفقدان الإدراك، بل إنه يرى أن التصوف قد أصابه التخليط، وأفسده الدخلاء.
يقول: إن الطريقة قد لحقها حيف لكثرة الدخلاء فيها، كما لحق البلاغة لكثرة مدعيها، وهذا هو السبب في أنه ليس صاحب مذهب خاص في التصوف.
ويظهر أنه كان يمزج الفلسفة بالتصوف، ويجمع بين مذهب النساك والمتصوفة، ومذهب أهل التفكير والفلسفة، لأنني لا أجد له مذهباً مستقلاً في تصوفه، ولا مذهباً معيناً في تفلسفه "فقد عرف كل المذاهب، وانتقى منها، وحمل على التقليد في كل منها، سواءً أكان في الدين أم في الفلسفة".
وإن هذا الحكم ليزداد وضوحاً بعد عرض بعض العقائد الكبيرة عند المتصوفة والموازنة بينها وبين موقف أبي حيان منها.
1 - غالى بعضهم في الحالة التي تعتريه، سواء أفسرناها بأنها دعوى وحدة الوجود أم فسرناها بأنها وحدة الشهود.
ولست أجد في كتب أبي حيان شيئاً من هذا كله.
2 - ظهرت عند بعض الصوفية نزعة إلى التحرر مما في هذه الدنيا حتى الشريعة، يحكي ابن حزم أن "منهم من يقول إن من عرف الله سقطت عنه الشرائع. نعوذ بالله من الضلال"، ويذكر أن بعضهم فضل بعض الأولياء على جميع الرسل والأنبياء. ويذكر القشيري في رسالته التي ألفها سنة 437هـ أن أكثر شيوخ الصوفية المحققين قد انقرضوا، وصار المتصوفة يعدون قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ويرفضون التمييز بين الحرام والحلال، ويستخفون بأداء العبادات، ويستهينون بالصوم والصلاة، ولم يكتفوا بذلك، بل ادعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وليس لله عليهم عتب ولا لوم!
ولم يكن أبو حيان يدين بشيء من هذا، فقد حج في جماعة من إخوانه الصوفية سنة 354هـ، فأدى الفريضة، وكان كما وصفه ياقوت يتعبد والناس على ثقة من دينه.
3 - اشتهر كثير من المتصوفة في القرن الرابع والخامس بمعاشرة المخالفين، ورفقة النساء، وصحبة الأحداث، ولكن أبا حيان لم يخالط هؤلاء، وكانت صلاته بالعلماء والأدباء والحكام والمتصوفة.
4 - غلبت العزوبة على المتصوفة في القرن الرابع، على الرغم من أن أكثر الصوفية القدماء كانوا متزوجين.
والسبب في إيثارهم العزوبة أن تخلو قلوبهم من المشاغل، وأن يبرءوا من الشهوات والمعاصي.
وبعضهم تزوج، لكنهم كانوا في شغل عن زوجاتهم وأبنائهم، والمعروف أن أبا حيان لم يتزوج، ولكن الباعث له على العزوبة غير معروف، أهو التصوف أم العزوف لسبب آخر؟
والذي أرجحه أنه أعرض عن الزواج في شبابه لأسباب موصولة بمزاجه وقلقه وحاجته إلى المال، فلما تقدمت به السن عاف الزواج، وعلى فرض أنه عزف عن الزواج لتصوفه، فإن هذا لا يكفي لوصفه بالتأثر الكبير بمذاهب الصوفية ومحاكاتهم في عقائدهم ورسومهم محاكاة كاملة.
5 - تغالي الصوفية في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام تغالياً لم يعرفه سواهم، ولكن أبا حيان –كسائر المسلمين- يعظم النبي ويمجده في حدود رسالته وبشريته.
6 - الصوفية يعتقدون في الولاية والأولياء اعتقاداً خاصاً والأولياء في نظرهم طبقات وأنواع. ولهم كرامات لا شك فيها. وهم يفرقون بينها وبين المعجزات بأن المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء ولخيار المسلمين، وقد ذكر الطوسي أقوالهم في صدق الكرامات، وأورد أمثلة كثيرة لكراماتهم، ورد على من أنكروها.
أما أبو حيان فلم يعتقد في الكرامات ولا في ولاية الأولياء بهذا المعنى. يدل على ذلك قوله: "فأما أصحاب النسك ومن عرف بالعبادة والصلاح، فقد ادعى لهم أن الصفر يصير لهم ذهباً وشيئاً آخر يصير لهم فضة، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل، وينزل لهم القطر، وينبت لهم الأرض، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء. وربما يسمي كثير من الناس ما يظهر للزهاد والعباد من هذا الضرب كرامات، ولا يسميها معجزات، والحقائق لا تنقلب بالأسماء، فإن المسمى بالكرامة هو المسمى بالمعجزة الإلهية".
¥