يبدو من سياقِ الآياتِ التاليةِ لها أنَّ اللهَ تعالى يريدُ أنْ يسرّيَ عن رسولِهِ، يريدُه أنْ لا يشقَّ على نفسِهِ، وأنْ لا يشقى، وأنْ لا يبخعَها تأثُّراً من عدمِ استجابةِ قومِهِ للإيمان .. يريدُ منه أنْ يدعوَهم لعلّهم يهتدونَ .. كأنّهُ يعاتبهُ لمصلحتِهِ: "إنْ عليكَ إلّا البلاغ" .. "وإنَّ عليْنا لَلْهدى" .. "إنّكَ لا تهدي مَنْ أحبَبتَ ولكنَّ الله يهدي مَنْ يشاءُ" .. "إنْ تحرصْ على هداهم فإنَّ اللهَ لا يهدي مَنْ يُضِلُّ".
مناسبةُ الخطابِ؟ ..
نعودُ للسؤالِ: ما "طه"؟
فَلْننظُرْ في الآيةَ الثانيةَ: "ما أنزلْنا عليك القرآنَ لِتَشقى" .. لقد جاءت "ما" النافية بدايةً لها .. وفي الآيةِ الثانية نفسِها يوجدُ خطابٌ للرسولِ عليْهِ السلامُ: "عليْكَ ..... لِتَشقى".
فكيفَ تأتي "ما" النافيةُ في حالةِ الخطابِ؟
ما الذي يسبقُ "ما" النافيةَ في حالةِ الخطابِ؟
تأتي"ما" النافيةُ في حالةِ الخطابِ منعقدةً معَ النداءِ أوْ معَ القسمِ، أيِ العادةُ هيَ أنْ يسبقَ "ما" النافية في حالةِ الخطابِ:
1 - إمّا نداءُ المنادى الذي تتمُّ مخاطبتُهُ: "يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانتْ أُمُّكِ بَغِيّاً" (مريم: 28).
2 - وإمّا قسَمٌ يقوّي النفيَ ويعزّزُ الطلبَ، أوْ يؤكِّدُ موضوعَ الإخبارِ، أوْ ليثيرَ الاهتمامَ في نفسِ المخاطَبِ: " ... واللهِ ربِّنا ما كنّا مشركين" (الأنعام: 32)، "قالوا تاللهِ لقدْ علمتم ما جِئْنا لِنُفسِدَ في الأرضِ وما كنّا سارقينَ" (يوسف: 73).
والإحساسُ باحتمالِ أنْ تكونَ "طه" هيَ المنادى، قدْ أوصلَ البعضَ للقولِ بأنَّ "طه" هيَ اسمٌ من أسماءِ النبيِّ عليْهِ السلامُ .. ووصلَ الأمرُ بالمسلمينَ أنْ يسمّوا أبناءَهم بهذيْن الحرفيْنِ "طه" تيمُّناً بهما باعتبارِهِما اسماً لنبيّهم، صلواتُ الله عليْهِ وسلامُهُ. ورَغْمَ توارُثِ هذا الحِسْبانِ، إلّا أنَّه لا يوجدُ أيُّ روايةٍ عنِ الرسولِ بأنَّهُ قدْ نوديَ بهِ، أوْ قالَ بأنَّهُ اسمٌ منْ أسمائِهِ. ولا أدري في أيِّ تاريخٍ قْدْ وُلِدَ أوّلُ أبناء المسلمينَ الذي جعلوا "طه" اسماً لهُ. هل كانَ في عصرِ بني أميّةَ؟
وعلى كلِّ حالٍ، فسياقُ بداياتِ السورةِ يوحي أنَّ الآياتِ الثلاثَ تحملُ تذكيراً للرسولِ بأنَّهُ لا يملكُ هدايةَ أحدٍ إلَا أنْ يشاءَ اللهُ تعالى.
أينَ الحلُّ؟
قلتُ إنَّ هناكَ احتمالاً بأنْ يكونَ قد سبقَ النفيَ قسَمٌ أو قسمانِ. فما تُراهُ يكونُ، أوْ يكونانِ؟
إنَّهُ القسمُ بطورِ الهدى: (وطورِ الهدى)، أو القسمانِ بالطورِ وبالهدى: (والطورِ والهدى).
"طه. (وطورِ الهدى). ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لِتشقى" ..
"طه. (والطورِ والهدى). ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لِتشقى" ..
فلماذا تمَّ التقديرُ من الطورِ والهدى؟
1 - قلنا إنَّ السياقَ هوَ في الحديثِ عنْ أنَّ تحقيقَ الهدى للناسِ ليسَ من الحتْمِ المقضيِّ على الرسولِ، عليهِ السلامُ؛ فما هوَ عليْهم بحفيظٍ، ولا بمسيطرٍ، ولا بوكيلٍ .. ليسَ عليْهِ أنْ يخلقَ استجابةً لدعوتِهِ في نفوس قومِهِ: "فذكِّرْ إن نفعتِ الذكرى" (الأعلى:9) .. "إنَّما أنتَ منذرٌ ولكلِّ قومٍ هادٍ" (الرعد: 7).
"ومَنْ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّّرَ بآياتِ ربِّهِ فأعرضَ عنها ونسيَ ما قدّمتْ يداهُ إنّا جعلْنا على قلوبِهم أكنّةً أنْ يفقهوهُ وفي آذانِهم وَقْراً وإنْ تدْعُهم إلى الهدى فلنْ يهتدوا إذاً أبداً" (الكهف: 46) .. فالقرآنُ تذكرةٌ لأنَّ فيهِ الهدى.
2 - وكانتْ قصصُ الأنبياءِ تأتي للتسريةِ عنهُ وتسليتِهِ، وللتدليلِ على أنَّه ما يُقالُ لهُ إلّا ما قدْ قيلَ لهم من قبلُ، ففي السورةِ نفسِها: "كذلكَ نقصُّ عليْكَ مِنْ أنباءِ ما قدْ سبقَ وقدْ آتيْناكَ من لَدُنّا ذكْراً" (99).
¥