وقد فرق ابن عابدين بين المعنيين فقال: " لكن كونه سنة مؤكدة لا يستلزم الإثم بتركه مرة واحدة بلا عذر، فيتعين تقييد الترك بالاعتياد والإصرار توفيقاً بين كلامهم كما قدمنا، فإن الظاهر أن الحامل على الإصرار هو الاستخاف بمعنى التهاون وعدم المبالاة، لا بمعنى الاستهانة والاحتقار، وإلا كان كفراً كما مر " (22) أهـ.
وقال أبو السعود: " والفسق في الشريعة الخروج عن طاعة الله عز وجل بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة له طبقات ثلاث:
الأولى: التغابي وهو ارتكابها أحياناً مستقبحاً لها.
الثانية: الانهماك في تعاطيها.
الثالثة: المثابرة عليها مع جحود قبحها.
وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان، ولقوله تعالى ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا " (23). أهـ.
إذن فمن معاني الإصرار كما في كلام علماء أهل السنة الأطهار الجحد والاحتقار للذنب وهذا من مراتب الكفر، والجحد عند أهل السنة على معنيين: التكذيب بأن الله حرمه، ونقض الالتزام بالطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم في تحريمه.
لكن من كان فيه ميل لقول جهم في الإيمان لا يعد ذلك الأخير من الكفر.
إذن فظاهر أن جمع النجدات بين مسألة الإصرار خصوصاً على الصغيرة، مع عدم التكفير بالكبائر في سياق واحد، يدل على أن مرادهم بالإصرار هنا هو الجحد بمعنى عدم الالتزام بالطاعة. وهذا في غاية الظهور.
ويؤكده سياق ما نقل أبو الحسن عن الإباضية كما تقدم: " " وقال بعضهم: ذلك ـ يعني جحد الله وإنكاره ـ شرك، وكل جحد بأي جهة كان فهو شرك وكفر، وقالوا: الإصرار على أي ذنب كان كفر " أهـ.
فقوله " الإصرار على أي ذنب كان كفر " بعد قوله " وكل جحد بأي جهة كان فهو شرك وكفر " ظاهر في أنه من باب عطف الخاص على العام. والله أعلم.
فالحاصل: أن في لفظ الإصرار من الإجمال ما يبطل استدلال هذا البعض من الناس به. بل نحن نذكره فنقول له: لولا ما في لفظ الإصرار من الإجمال والاحتمال لما كان في جواب الشيخ الحويني ـ حفظه الله ـ عن نفسه أي مستمسك. لازم قولك أن تجعله مع النجدات في قارب واحد.
أما نحن فلا نشك أبداً أن مراده من اللفظ كان النقض بالالتزام بالطاعة. وإن كنت أعتقد خطأ تخريج مقالته من وجهين:
الأول: أنه لم يعهد في كلام السلف ـ فيما أعلم ـ دلالة (لا أفعل) على نقض الالتزام بالطاعة إلا في المباني الأربعة، وعلى خلاف مشهور بينهم، كأن يقول " الصيام علي ولن أصوم " والجبن عن كل ما سكتوا عنه في مسألة الإيمان أصل أصيل.
الثاني: ضرورة تنزيه هذا الباب عن الألفاظ المجملة.
لكن المقطوع به أنه لم يرد بلفظ الإصرار سوى نقض الالتزام بالطاعة. فالأصل صحيح والتنزيل غير صحيح، لكن هذا شيء آخر غير التكفير بالكبيرة المجردة عن الدلالات والمعاني؛ ومن ثم فهذا شيء آخر غير قضيتنا.
والحاصل: أن في جمع النجدات بين عدم التكفير بالكبيرة، والتكفير بالإصرار لا سيما على الصغيرة في سياق واحد دلالة ظاهرة على إرادة الجحد الذي هو بمعنى عدم الالتزام بالطاعة. وهذا يبطل استدلال هذا البعض من الناس بمسألة الإصرار عند النجدات على تكفيرهم بالكبيرة كسائر الخوارج. ويستظهر على ذلك بما دار بين الكعبي وأبي الحسن. والله أعلم.
المسألة الثانية: استحلال النجدات دم القعدة وأموالهم.
وقال بعض الناس في الاستدلال على أن النجدات كغيرهم من فرق الخوارج تكفر بالكبيرة:" كما نقل ابن حزم والشهرستاني أن النجدات يستحلون دماء القعدة عنهم وأموالهم، وهذا كاف في وصفهم بالخارجية لأن الاستحلال مبني على التكفير ولا ريب " انتهى قول بعض الناس.
فأقول: هذا الكلام من بعض الناس فيه إطلاق مبني إما على الكذب وإما على الجهل بمعاني الكلام. وذلك من وجوه:
¥