والعجيب أنه إلى اليوم تجد بعض الشرعيين ممن يجنح للعقلانية في تناول المسائل الشرعية يتكلم من وقت لآخر عن التقدم التقني وأنه ضرورة، ويظنون أن سبب تخلفنا التقني ـ وبالتالي الحضاري كما يحلو لبعضهم تسميته ـ هو وجود النظرة المتشائمة للعلوم التقنية عند الإسلاميين، أو أننا بعد لم نأخذ بالأسباب اللازمة لذلك، ولم نحاول تلك المحاولة الجادة، وعلينا المحاولة من جديد وبذل الأسباب المادية وتيسير الفتاوى الشرعية المؤدية لذلك، فنشجع الموهوبين ونبرز مدى اهتمام الشرع بعلوم الطبيعة وتحريضه على عمارة الأرض.
وهذا الكلام منقوص ـ أقول منقوص ـ لا يمكن أن يُقبل وحده بل يحتاج لكلامٍ قبله وكلامٍ بعده، وهذه بعض الملحوظات تزيل الغبش وتجلي الحقائق في هذه القضية التي تتجدد من وقت لآخر.
أولا: من البديهي أن نتاج التقدم التقني في شتى المجالات عبارة عن وسائل تخضع لمن يتعامل بها، فهي في ذات نفسها لا توصف لا بحلال ولا بحرام، وإنما على حسب من يستخدمها،فمثلا الحاسوب (الكومبيوتر) والتلفاز، والأسلحة المتطورة، وفن العمارة، قد يستخدم في النافع وقد يستخدم في الضار، وذلك تبعا لمن يستخدمه.
وقد رأينا الكيمائي حين تَفْسُد أخلاقة ينتج المواد المتفجرة، والسموم المخدرة، ورأينا الطبيب حين تفسد أخلاقه يتاجر بالطب ويبتز المريض وقد يتعدى على الحرمات حال التشخيص. وجملةً لم تستفد البشرية كثيرا من الرقي المادي الذي جاءها على يد من لا خلاق لهم من العلمانيين، وتحولت المعمورة لساحة من الصراع والاقتتال، والمتاجرة بأرواح الناس وأموالهم، وفسد الجو والبر والبحر بل والطعام والشراب من نتاج الحضارة والرقي، كونها وسائل يتحكم فيها مَن لا خلاق لهم.
فالقضية الأولى التي لا بد من حسمها أولا هي ضبط الأخلاق. . . ضبط القيم قبل التقدم التقني حتى لا يعود علينا شرا ونجني منه حنظلا. وذلك عند الأفراد الذين يعملون في هذا المجال وعند الأمة التي تستعمل نتاج هذه العقول. والتقدم التقني بلا قيم صحيحة لا يأتي أبدا بخير.لذا إصلاح العقيدة أولاً، وهي قضية لا نتحرك إلا غيرها قبلها، أو معها، بل هي أولاً، ثم نتحرك منهاإلى غيرها. أو نتحرك لغيرها مستوثقين بوثاق منها .. هي الثابت ندور في فلكه بما يسمح لنا.
ثانيا: في الشرع ربطٌ واضح بين الإيمان بالله والرقي المادي والحضاري، أو بتعبيرٍ أدق جُعلَ الرقي الحضاري والمادي إحدى ثمار الاستقامة على شرع الله. قال الله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، والمصائب، والفساد في البر والبحر كله بسبب البعد عن طاعة الله عز وجل. قال الله {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وقال الله {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
فبغير الإيمان بالله تنقلب وسائل التقدم على البشر ولا يستفيدون منها كما هو حاصل اليوم. ولهذا الأمر تنظير عقلي وتاريخي أوضحه في النقطة التالية.
ثالثا: لَمْ يتقدم العلم التقني مع اليونانيين والإغريقيين وتقدم مع العرب البدو الأميين ـ وهم أجدادي يرحمهم الله ـ.كيف حدث ذلك؟
في جملة واحدة: حدث ببركة الامتثال لأمر الله.
وتدبر.جاء في القرآن الكريم الحديث عن النظر في الأرض والتدبر في مخلوقات الله، مرة بصيغة الأمر بأن يسيروا في الأرض من أجل النظر وتدبر آيات الله في خلقه، ومرة بأسلوب الحض، ومرة بصيغة التراخي (ثم) تنادي على من ضرب في الأرض غازيا أو تاجرا أو زائرا أو مهاجرا أن ينظر حال السير.
¥