[مصحف أسامة]
ـ[أبو مهند الشمري]ــــــــ[27 - 11 - 07, 07:25 م]ـ
أفقتُ من قيلولتي ذاتَ يومٍ قبلَ أذان العصرِ، فلم أجدْ أسامة ..
سألتُ عنه فأجابتني أمهُ وعلى وجهها ابتسامةٌ مشرقةٌ:
ـ لقد ذهبَ إلى المسجدِ ..
ـ ولكنّ الوقتَ ما زالَ مبكراً.
_ لقد اصبحَ ينافسكَ، بل إنه يسبقكَ .. !
_ هذا يسعدني والله ..
وأضافتْ وعلى شفتيها ابتسامةٌ عذبةٌ:
ـ لقدْ لاحظتُ إنه حريصٌ على اصطحابِ مصحفه الصغيرِ، والقراءة فيه كثيراً، وأحسبهُ يحتضنهُ في حنو الآن وهو في رحاب المسجد. .
ابتسمتُ وأنا أشعرُ أن الدنيا لا تسع فرحتي بولدي المؤمن الصغير.
ووثبتُ إلى الوضوءِ، فلا أقل من أنْ ألحق به ..
**
بعدَ أسبوعين تقريباً ..
اقتربتْ أمُ أسامةَ مني وقالتْ بهمسٍ:
ـ أبا أسامة .. ألم تلاحظْ ما اعترى تصرفات أسامة هذه الأيام؟
ـ ماذا تعنين؟
ـ لستُ أدري يقيناً، لكني أتساءلُ: ما سر تشبثه بمصحفه كل هذا التشبث، لقد طلبته البارحةَ منه فجاءني بمصحفِ أخته .. ولم يناولني مصحفه ..
بل لاحظتُ أنه يحرصُ على أن يخفيه، وهذا اليوم لاحظتُ أنه لم يحمله معه، وأخذ مصحفاً آخر ..
إنه لم يعتدْ هذه التصرفات من قبل، لست أدري ما حدث له؟؟
كنتُ أصغي إلى أم أسامة ملياً، فهي أكثر ملاحظة مني ...
وأحسستُ بالقلق، وغرقتُ في تفكيرٍ عميقٍ، قطعهُ صوتُ أسامة وهو يدخل مسلماً.
رددت السلامَ وأنا أظهرُ له البشرَ، وتفرستُ في وجهه، وأنا أتذكر كلمات أمه، فأثار انتباهي شيءٌ من الاحمرار في عينيه ..
لعله اشتبك مع أحد أولاد الجيران الأشقياء ..
ولكن ليس من عادته أن يتشاجرَ مع أحد .. ولا يدع مجالا لأحد أن يعتدي عليه .. بل هو سمح سهل يتجاوز ويعفو حتى عمن ظلمه ..
كثيرا ما سمعته يقول عن من ظلمه:
الله يسامحه .. أنا أريد أجري من الله .. أنا أغفر له حتى الله يغفر لي.
ولهذا ازداد قلقي وسألت اللهَ ألا يخيب أملي في ولدي ..
دعوته ليجلسَ بقربي، وقبلته وأخذت أداعبهُ ..
**
صرتُ أراقبه في المسجد .. في البيت .. في الطريق ..
بل وأخذتُ أسأل عنه في المدرسة .. كل شيء على ما يُرام .. لا شيء أنكره عليه ..
عدت من المسجد ذات يوم فسألتني أمه بلهفة:
ـ هيييه .. ماذا وراءك، طمئني؟!
ـ لا شيء .. لقد قرأ القرآنَ كعادته بعد الصلاة مع أترابه، وأثنى إمام
المسجد على قراءته المجودة المرتلة .. ولمحتُ شفتيه عن بعد تتمتمان
.. وأدركت أنه يستغفر الله .. كدأبه كلما سمع ثناءً عليه أو مدحاً له ..
وسألتُ عنه في المدرسة فوجدتُ الكل يثني عليه، بل أكثر مدرسيه يقولون: ليت طلاب المدرسة في أخلاق أسامة .. إذن لكنا بخير ..
تنهدت أمه بحرقة وهي تقول:
ـ والهفى عليك يا ولدي .. ترى ماذا تخفي؟
_ هل لا زلتِ تلاحظين عليه تلك الملاحظات؟
_ نعم .. له مع مصحفهِ قصة ولابد .. اصبحَ يحذر مني أن أمدَ يدي إلى جيبه لأخذ المصحف .. وما كانت هذه عادته ..
_ سبحان الله ...
وعزمتُ على كشف هذا السر ..
**
في أثناء ذهابِ أسامة إلى المدرسةِ، قررتُ أن أفتشَ حجرته .. لأني كنتُ أعلمُ أنه لا يحملُ مصحفَه الصغيرَ إلى المدرسة ..
بسهولةٍ وصلتُ إلى المصحفِ، فقد كان يضعه في درجِ مكتبه قربَ سرير نومه .. كان من عادته أن ينظرَ في المصحف قبل أن ينامَ ..
سألته عن ذلك يوماً فقال: حتى يكون آخر ما رأيت بعيني كلام الله ..
ثم يقول وعيناه تلمعان: ويمكن أشوف رؤيا مفرحة ..
أخذتُ أقلبُ أوراق المصحفَ بين يدي .. فهالني ما رأيتُ .. !!
ـ يا إلهي .. ما هذا؟؟!
لقد وجدتُ بعضَ صفحاته قد ثُقِبَ أو كادَ، وصار الورق في حال يُرثى له .. !!
وأحسستُ بنيران الغضب تشتعلُ بين جنبيّ .. وفار دمي بشكل غير عادي ..
أسامة يفعل هذا؟؟! أسامة النقي الذي أصحو في جوف الليل
البهيم على صوت بكائه فأذهب لأجده صاكاً بيديه وجهه وهو ينتحب فاسأله عما به، فيجيب:
ـ لا شيء، لا شيء يا أبي .. تذكرتُ النار فخشيتُ أن تمسني!
فأقبّل رأسه الصغير، وأضمه إلى صدري، وأدعو له، ثم أطمئنه،
و أعود إلى فراشي، وأنا اسأل الله أن يذيق قلبي حلاوة التقوى والخشية التي ذاقها ولدي ..
أيعقل أن أسامة لا يحفظ حرمةَ كتاب الله، وهو خير تالٍ له؟!
سبحانك يا مقلب القلوب .. اللهم رحمتك نرجو ..
اللهم لا تخيب ظني بولدي .. اللهم لطفك ..
**
حملتُ المصحفَ معي، ووضعته في جيبي ..
وعندما عاد أسامة من مدرسته واجهته بمصحفه الصغير .. وكنت أحاول أن أتماسك فلا يظهر غضبي ..
تراجع إلى الوراء خطوة، وقد أحمر وجهه، ومباشرة دمعت عيناه، وتلعثم .. ومما زاد في غليان غضبي أنه لم يجب .. فصحتُ مهدداً:
ـ أسامة .. هل لي أن أعرف ما هذا الذي أراه في مصحفك؟!
ومن بين شهقاته وعبراته جاء صوته المتهدج:
ـ إنها دموعي يا أبي .. دموعي يا أبي .. !
وأجهش بالبكاء .. فوثبت إليه أحتضنه بقوة ودموعي تسبقني ..
_ _ _ انتهت _ _ _
¥