(قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين)، وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا: (سبحان ربنا إنا كنا ظالمين)؛ قال الحسن: لقد دخلوا النار وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا.
ولهذا قال تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)، فهذه الجملة في موضع الحال، أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محموداً على ذلك، فقطع دابرهم قطعاً مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاك يُحمد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضَعَها في الموضع الذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل ولا يليق به إلا العقوبة؛ ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار: (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)، فحذف فاعل القول إشعاراً بالعموم وأن الكون كله قال: الحمد لله رب العالمين، لِما شاهدوا من حكمه الحق وعدله وفضله؛ ولهذا قال في حق أهل النار: (قيل ادخلوا أبواب جهنم)، كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم---).
وقال ابن كثير في (تفسيره) (7/ 125) في كلامه على قول الله تبارك وتعالى {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر 75]:
(لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزل كُلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور -أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضى الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الخلائق {بِالْحَقِّ}
ثم قال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: ونطق الكون أجمعه -ناطقه وبهيمه- لله رب العالمين، بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد.
قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} [الأنعام:1] واختتم بالحمد في قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}).
(21)
الفرق بين قوله تعالى (آتيناهم الكتاب) وقوله تعالى (أوتوا الكتاب)
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/ 440 - 441) في ثنايا بعض مباحثه النفيسة:
(وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله (والكافرون هم الظالمون) [البقرة 254] وقوله (والله لا يهدي القوم الفاسقين) [المائدة 108] وقوله (فبظلم من الذين هادوا) [النساء 160] وقوله (ذلك جزيناهم ببغيهم) [الأنعام 146] وقوله (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) [الزخرف 76].
وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره؛ وإنما المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) [الجن 10] فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد؛ ونظيره في الفاتحة (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) [الفاتحة 7]، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه والضلال منسوباً إلى من قام به والغضب محذوفاً فاعله؛ ومثله قول الخضر في السفينة (فأردت أن أعيبها) [الكهف 79] وفي الغلامين (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) [الكهف 82]؛ ومثله قوله (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) [الحجرات 7]، فنسب هذا التزيين المحبوب إليه؛ وقال: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) [آل عمران 14] فحذف الفاعل المزين؛ ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء 78 - 82] فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة.
¥