تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتاً كأنها مسلّمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله؟ – لا، بل هو الحق كله (6) – وهل يعارض الحقّ [الحقّ] حتى يكون الإيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر؟!

ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ فقد يكون الشيء حقاً وغيره حقاً فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهداً ومصدقاً لما بين يديه من الكتب، فأنّى يكذّب به من يؤمن بها؟!

ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلاً: ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعضُ العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: (إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجباً للإيمان به)؛ بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر؛ أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنّى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القران بكلمة (لما معهم).

فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رُفعت وأخرى وُضعت في مكانها عند الحاجة إليها (7)؛ فكانت هذه الكلمة حسماً لكل عذر، وسداً لكل باب من أبواب الهرب؛ بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم أُتمت في خطوة واحدة، وفي غير ما جلَبَة ولا طنطنة.

ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطويّ الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الردّ على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم، فأوسعهم إكذاباً وتفنيداً، وبيّن أن داء الجحود فيهم داءٌ قديم، قد أُشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضاً مزمناً، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على ذلك الشواهد التاريخية المُفظِعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {91}) (8)؟).

(1) تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدَّت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدّق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يصدّقك يبقى مصدقاً لك؟!

غير أن هذا المعنى إنما أُخذ استنباطاً من أقوالهم، وإلزاماً لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم؛ فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد.

وهكذا كانت كلمة (مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها، وكانت آخرُ درجة في سلّم الغرض الأول هي أولَ درجة في سلّم الغرض الثاني؛ فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجاً له على مدارجها، وتنزيلاً له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس (9) تطلّع النفس واستشرافها (10) من تلك الكلمة إلي غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.

(2) وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: (فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟)؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مثلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهورة (11) فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: (وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟!.

ولو زاد مثلاً: (وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبلُ الكلام وفترت قوته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير