تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يقول الله تعالى في ذكر حِجاج اليهود: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {91}) (5).

هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:

(ا) مقالة ينصح بها الناصح لليهود، إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.

(2) إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.

(3) الرد على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه.

وأُقسم لو أن محامياً بليغاً وُكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية ثم هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.

قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله؛ فالقرآن الذي جاء محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.

فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز (آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ).

وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته، فجعل دعاءه إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.

ثم انظر كيف طوى ذكر المنزَل عليه فلم يقل: (آمنوا بما أُنزل الله على محمد) مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة؛ أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذُكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسداً؛ أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأُدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل؛ وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الإسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يُخرج أضغانَهم ويثير أحقادَهم، فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح.

ذلك إلى ما في هذا الحذف من الإشارة إلى طابع الإسلام، وهو أنه ليس دينَ تفريق وخصومة، بل هو جامع ما فرقه الناس من الأديان، داعٍ إلى الإيمان بالكتب كلها على سواء: بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين شيء من كتبه، كما لا نفرق بين أحد من رسله.

كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا، والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.

هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)؛ وهذا هو المقصد الأول. وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.

من البيِّن أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أُنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني؛ ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يُبرزه؛ أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً لهم، ولم يُدخلْ مضمونَ قولهم في جملة ما نقله من كلامهم؛ بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم، فقال: (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟!

ثم انظر إلى التعبير عن القران بلفظ (مَا وَرَاءهُ) فإن لهذه الكلمة وجهاً تعم به غير القران ووجهاً تخص به هذا العموم؛ ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة، أي جاء بعدها؛ ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلاً؛ وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع؛ وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام.

جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير