وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثلٌ في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا (ظلم) وفي الثانية: (بئسما) صنعتم؛ أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن [أين] (15) الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟
لله ما أعفّ هذه الخصومة، وما أعزَّ هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر).
********************************
الهوامش
(1) هذا مثل صغير: إقرأ قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب) [سورة البقرة الآية (212)] وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس؛ ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة:
فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء؟ أصبتَ.
ولو قلتَ: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
ولو قلت: يرزقه رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر وحياب، أصبت.
فعلى الأول يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسَب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله؛ بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء؛ وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.
وعلى الثاني يكون تنبيهاً على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.
وعلى الثالث يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.
وعلى الرابع والخامس يكون وعداً للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافاً كثيرة لا يحصرها العد.
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب [بالأصل العاجب]. انتهى.
(2) الإسراء 84.
(3) (هود 44؛ إقرأ إن شئت ما كتبه السكاكي عن هذه الآية في كتابه (مفتاح العلوم) بعد تعريف البلاغة والفصاحة، في آخر علم البيان). دراز.
(4) البقرة 179؛ إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب.
(5) فإن ما سواه إن خالفه كان شاهداً على نفسه بالبطلان، وإلا كان صحيحاً أو محتملاً للصحة؛ فهو إذن معيار الحق وميزانه.
(6) (ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: (مصدقاً لما أنزل عليهم) ولكنه لأمر ما نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، والبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلتَ أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت: (مصدقاً لما هو باق في زمنهم)، أو (مصدقاً لما عندهم)، لما تم الإلزام؛ وهذا من عجيب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته). دراز.
(7) البقرة 179؛ (إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب). دراز.
(8) لعل الصواب في ضبط هذه الكلمة هكذا (أَنِسَ).
(9) في مطبوعة النبأ (واستشراقها).
(10) (التي تزعم أن ذئباً عدا على حَمَل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى؛ وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استناداً لأوهن الأسباب). دراز.
(11) وهذا هو ما يسمى في المناظرة (بالتقريب) بين الدليل والمطلوب.
(12) أي التعبير عن الماضي بالفعل المضارع. م.
(13) لو قال: (الملك) لكان ذلك أسلم في التعبير، وإن كان لكلامه وجه وهو أن الكلام هنا جار على طريقة كلام أهل الرفعة والعظمة وهو كلام ملك الملوك.
(14) (ومن هنا عيب على امرئ القيس تفصيله في غير موضع التفصيل، وذلك فيما هو معدود من أجود شعره، قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة
¥