تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المجتمع من هذه الناحية حقّا على المجتمع.

فإن لَم يكن من بيت المال؛ ففي أموال من يشتغلون على حسابِهم في تصفية دعاويهم، أو قسم تركاتهم، أو تَحرير الأحكام بنصوصها لَهم، يأخذون منهم بالمعروف، وبقدر المال المشغول فيه، ثم بِحسب ما يتراضى الأستاذ والمحكوم له وراء ذلك كله، وقد يتجاوز بعضهم ويركب الشطط، ولكن الغالب يراعي خالقه، فيحفظ مروءته، تَمالأت بِحل ذلك- ما دام بالمعروف، وبرضى المحكوم له بالحق- غالب فتاويهم ونصوصهم، وصار ذلك معهودا، يدخل عليه أصحاب الدعاوى، يوم يَحكمون أستاذا في قضيتهم أو يقسمون أمامه ميراثهم، وقد رسخ في أذهان العامة حتى صار دينا معتقدا، وعادة مُحكمة: إن الخصومات لا يفصلها إلا الفقهاء، وويل لِمن تصدى لفصلها من العوام المستبدين على القبائل، وقليل ما هم، على أنه لا بد لَهم من الاتكاء على رأي فقيه كيفما كان الحال.

وقصارى الرؤساء في الكثير الشائع أن يقفوا موقف المنفذين لِما يحكم به العلماء، وهذا عم كل القبائل السوسية، ولا نستثني منها واحدة، إلا ما [27] فيها القضاء الرسمي وهي قليلة جدّا -اللهم إلا إذا كانت القضايا من جنس ما تتمالأ عليه القبيلة من عوائدها، كعادتهم في قسمة الماء، وما يؤخذ من المفسدين من غرامات مالية، أباحها من قديم بعض العلماء، ففي هذه وأمثالِها ما يُطلقونَ عليه الأعراف، ومثل هذا لا يَخلو منه بلد، حتى فاس وهي ما هي، ولا مرية أن العوائد التي لا تصدم النص معتبرة، وهذا النوع () إن كان في بعض نواحي سوس فيندر فيه جدّا؛ لشدة وطأة أرباب العلم () لتمكن ناموسهم، فلا مرية أنَّهم يزدادون تَمكنّا وسموّا كلما ازداد القانون الشرعي تَمكنّا وسُموّا.

كثيرا ما تَجري على لسان المتظلمين هذه العبارة المشلحة: (أنا بالله وبالشرع) فيكون كل من نادى بِها في مَجمع قبيلة يُعلن أنه غير راض إلا بِحكم الشريعة، فتدوولت الكلمة حتى صار المتظلم يقولُها من غير أن يعتبر مدلولَها الأصلي، وإنّما يعني أنه مظلوم ()، وإنّما ذكرنا ذلك كله بإيضاح؛ ليُدرك القارئ الْمَنْزلة التي للعلماء في سوس من غير أن تساندهم قوة الحكومة ولا غيرها، وليدرك ما لِمنْزلة العلم العربي في جزولة وما له من الاعتبار، فذلك هو العلة التي استبحر بِها العلم العربي هناك، ولا يمكن استبحار علم بلغة أجنبية عن اللهجة العمومية كلهجة الشلحة في غالب سوس خصوصا الجبال إلا إذا وجد طرق السيادة والشرف الدنيوي والثروة مفتوحة منهوجة في كل جانب، حتى كان العلماء هناك إذا أطلقوا لا يتصورون إلا أغنياء، فاسمع لما يقوله الأستاذ ابن عربي الأدوزي في أرجوزته الأتائية أثناء (رحلته المراكشية) عندما يذكر أن اتِّخاذ أواني الأتاي متعين على الأثرياء المقصودين؛ لأنَّها من دواعي الكرم:

لذاك فالرجل ذو أموال

من عالِم أو حاكم أو وال

لا بد أن يتخذ الطبلة في

منْزلة لوارد ذي شرف

والطبلة يقصدون بِها الصينية التي تهيأ فيها الكئوس لشراب الأتاي على العادة، هذا وقد عهد من احترام السوسيين لعلمائِهم، ما هو معروف [28] قديما وحديثا ()، ولا يزال أحياء إلى الآن من كانوا من العلماء () رأسوا- قبل الاحتلال- الرياسة الأدبية بعلمهم، فقادوا الجيوش، ودبروا الأمور، وتصدروا المجامع، وساسوا الرعية، وقد كانوا كثيرين قبل (1352هـ)؛ وما ذاك إلا لأنَّهم استولوا على النواصي بقيامهم بِمَا هُو ملقى على كواهلهم، فأرشدوا العامة، وعلموا الْخَاصة، وترفعوا عن الدنايا، وقد غلب عليهم التعالي عن السفاسف، حتى صار من ليس ذلك مرتكزا فيه يتظاهر به حفظا لناموسه العلمي، ثم هُم مع ذلك لا يَخرجون غالبا عن الاقتصاد في كل شيء؛ في الملبس، والمأكل، والمشرب، والتعالي، بل يغلب عليهم التواضع والتصوف، حتى ليمعن في ذلك بعض الأجلاء منهم إمعانا يَخدش فيه؛ لأن الأنانية المصطعنة هي التواضع الزائف، ولا ريبَ أن ذلك التواضع الْخَالص، مِمَّا يزيدهم تَمكنا عند الناس.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير