نفثت بأذني السحر أو شعرك الصرفا
ولفظك هذا أو مكاملة الذَّلفا
لقد أخذت مني قوافيك مأخذا
عظيما كأني قد سقيت به صرفا
وما كنت أدري كيف يسكر شارب
إلى أن مددت الكأس توجتها الكفا
سمعت بيانا بارعا وفصاحة
إذا سمتها فكري فقد سَمتها حيفا
أدامك ربي فرهد الشعر قائلا
إلى أن يعد الناس من عمرك الألفا ()
ويقول أبو زيد الجشتيمي يُخاطب أحد أهله مستفزا لِهمته من أول قطعة لَم نقف منها إلا على هذا القدر:
إذا لَم يكن للمرء نَحو العلا عزم
فلا الب يعلى شأنه لا، ولا الأم
تنام وتبغي أن تنال مراتبا
زللت وأخطأ ما تُحاوله الوهم
بغير الجناح لا تطير إلى السما
بزاة فكيف الطامحون وإن هموا؟
ويقول أيضا وهو في أريحية الأديب، وهي من قطعة لَم نقف منها أيضا إلا على هذا القدر:
جللني الشيب ولكن لي
نزعا شديدا للفكاهات
أخف نَحو غزل طاهر
فأستخف للغزالات
لكنما الدهر يقيدني
برغم أنفي بالجلالات
وكتب أثناء رسالة أجاب بِها من يشكو إليه جيرانه من العلماء اليَزيديِّين:
«طالَما أهمني الإشفاق: أن يقع بينك وبين أهلك شقاق؛ لأنني أتخوف منك الميل إلى الأبكار؛ لِما في فضلها من الأحاديث والأخبار، مع أن من قدمك على الآباء والأولاد، أحق بِحسن صحبتك من سائر العباد.
ولا ينبغي أن تبيع وَصْلَه وصَلْحَه، ولو بِجمال عائشة () بنت طلحة، والآن أمن الله خوفي، وبرد بألطافه جوفي، إذ فهمت من رسالتك ورسلك أنك على شأنك ورسلك، وأن تحيرك من أهل الجِوار ينسيك تَخير الْجَوار، وأن الأعجاز وتَمنع الأقبال يذهلانك عن الأعجاز والتمتع بالأقبال، وإن مناغاة المتاعب تَمنع من مغازلة الكواعب» ().
[96] وقال أحْمَد الدرعي يُهنئ ابن صالِح القاضي بعرس من قصيدة أولها:
ورد البشير مهنئا بوصال
والقلب للشوق المبرح صال
يقول فيها بعد تغزل، والقائل متأثر ببساتين تارودانت:
إيه أيا خير الأساتِذ أننا
طرا على نعم الهنيء البال
مدت علينا من حبورك ظلة
كانت بعرس من وريف ظلال
ما أنت وحدك في السرور فكلنا
بين الغزالة ناعم وغزال
حتى الزمان أتى إليك ربيعه
بالورد فوق قضيبه الْمَيَّال
فحدائق الأشْجار في أغصانِها
حيَّت مقامك عن شذى الآصال
والطير في أفنانِها تشدو وما
تشدو بغير هنائك المتلالي
وخرير هذا الماء في قنواته ()
تصفيقه فرحا بعرس عال
قم يا مدير أدر فهذا يومها
صارت بِهذا البشر خير حلال
واملا الكئوس بِخَمرة بسامة
في وجه شاربِها الرخى البال
واصبن () فديتك عن يدي متثلما
فأنا شروب بنت كل دوال ()
ولنكتف بِهذا القدر، فإنه يكفي في أن نعلم كيف وجود الأدب السوسي في هذا الطور، فإنه كما يرى القارئ مِما سقناه لا يترامى إلى الإجادة مع ضعف في النسج، وقلما يفارقه، فالمعاني ألطف من الألفاظ، والإخوانيات، واستنهاض الهمم مِما يطرق كثيرا، ولا يدل هذا على أن القصائد الطويلة المديحية في الملوك وغيرهم غير موجودة، فإن هناك قصائد مطولة للجشتيميين في جانب مولانا عبد الرحمن، ومثلها في النبويات، بل وقفنا على نبوية في هذا الطور لأحمد الجشتيمي تنيف على خَمسين وثلاثمائة بيت من النظم الذي أطيل فيه النفس ()، كما رأيت أن هناك ديوانا خاصّا لابن صالِح لكنه أمشاج، فمن هناك يدرك القارئ مقدار ما لِهذا الطور الثالث من امتداد القوافي، مع إلْمَامه بِما يعتريه من ضعف غالبها، وبِما تكتسيه أحيانا من جَمال الأسلوب، وروعة البيان، فيكون هذا الدور الذي أطلقنا عليه: دور انتعاش الأدب السوسي دورا مُنْعِشا حقّا؛ لأنه [97] كما احتوى على العناية بدراسة الفن -وهو ما خلا منه الدور الذي قبله- واحتوى أيضا على التنوع فيما يُمكن أن يتنوع إليه أدب أمة بدوية مستعربة، احتوى فوق ذلك على براعة حسنة، فإن لَم تكن فائقة؛ فهي سائرة في طريق التفوق، ولا يعزب عنك أيُّها القارئ الكريم أن لَهجة أدب هذا الطور مُختلفة، فما قيل في حاضرة تارودانت يُخالف في وشيه ما يُقال في الجبال، وهذه ظاهرة ينبغي أن لا يَجهلها الباحث.
¥