إننا متفائلون كثيرا بِهذه الحركة الجديدة التي هي ذيل مذهب لِهذه النهضة الأخيرة، وتقود هذه الْحَركة المتفاءل بِها حلية في طليعتها الشاعر البونعماني الذي برز حوالي (1352هـ)؛ ولذلك رمزنا بِهذه السنة لفجر هذه الْحَركة المباركة، ثُم يتلوه الْحَسن التَّناني، وإبراهيم الإلغي، ومُحمد الكثيري، ومُحمد الروداني، ومُحمد العثماني، ونرى آخرين يعضدونَهم [118] في الميدان، فتتآلف من الجميع حلبة تسير إلى الأمام، ونرى أنه لولا هؤلاء وأمثالَهم من النشء السوسي الجديد، ولولا هذا التلقيح الذي تلقح به أدب سوس الذي تبقي عن تلك النهضة الأخيرة؛ لكان في مكان ذلك التفاؤل أرجاف عظيم بِهذا الأدب السوسي، ثُم يتبعه نعي الناعين، وكيف لا نبتهج بِهذه الْحَركة الجديدة مع أننا نقرأ من بين آثارها:
رب مالي وللقوافي ومثلي
ليس يرضيه غير خلع العذار
وأنا شاعر طموح أبي النـ
ـفس لا أرتضي حياة الإسار
إن ورد الحياة من إذ لَم
يَك فيه الفتى من الأحرار
مستبد بنفسه وحجاه
وشئون الحياة والأفكار
وإذا ما غدا إلى اللهو يوما
ليس يثنيه من يقول حذار
يتحلى بكل ما يقتضي الذو
ق وإن لَم يكن شعارا لوقار
يرسل الوجد زفرة منه تتلو
زفرة لا يكنها خوف عار ()
ونقرأ أيضا من آثارها من قصيدة طويلة فخرية:
هو من درى عرش القوافي إنه
فرد المعارك لا يُطاق طعانه
فإذا رمى يوم الرهان فطعنة
نَجلاء يعرف وقعها شُجعانه
ذاك اليراع مهند يدع العدا
صرعى وتقصر دونه أقرانه
قطري المفدي سوس يعرف محتدى
وتَحن لِي مهما أغب جُدرانه
وتقر لي ولتالدي أشياخه
ولطار في بين الورى شُبَّانه
ولو استطاعت أن تسير دياره
شوقا إلى لِجاء بونعمانه
اشتاق معهده الكريم وإنني
ما دمت ليس يلم بي نسيانه
وإذا ذكرت هناك أيام الصبا
يعتاد قلبي في الحشا خفقانه ()
[119] ونقرأ من آثارها أيضا في فخرية أخرى:
أتحسب أني لا أجيد القوافيا
وأني لا أبدي وإن جل ما بيا
ألا إن شعري ماؤه غير عائض
فما لي لا أجري القوافي ما ليا
متى جال فكري في خيال تسابقت
إلَي معان تستفز الرواسيا
وإن حام في جو الصفاء سمت به
إلى الأوج آمال تناجي الدراريا
حماسي شعر لو تكتب جيشه
لَحطم في قلبي الرزايا العواليا ()
حقّا، كيف لا نبتهج ونتفاءل كثيرا بِهذه الألسن الجديدة، وبِهذه الروعة التي صارت تكسو شيئا فشيئا الأدب السوسي من جديد، فتقربه إلى الأدب العربي العام، الذي له اليوم في البلاغة والأساليب العليا مَجالات سامية منتهى السمو، وينتظر أن تعلو حتى تقدر أن تُماشي ذلك الأدب العربي العام قريبا إن شاء الله.
وبعد: فهذه نظرات عجلى ألقيناها على الأدب السوسي في كل أدواره التي تقلب فيها من أوائل القرن التاسع إلى الآن، ولا نرمي بكل ما قلناه إلا أن نُعلن وجود هذا الأدب غاية الإعلان؛ لأننا نرى كثيرين من أبناء المغرب نفسه -فضلا عن كل أبناء العروبة- لا يزالون يَجهلون كون الأدب العربي موجودا في هذه الزاوية المغربية، وأن له سِمة خاصة يَمتاز بِها في كل أدواره.
هذه غايتنا فقط، وأما دراسته حق الدراسة ووضعه في ميزان النقد؛ ليعلم مقدار أهميته في الابتكار، واختيار الأسلوب، وتَجويد المنحى وقلب ذلك ظهرا لبطن، حتى تنصع الحقائق، ويظهر ما وراء ذلك الأدب الطويل العهد، فإننا لا نقصده في هذه المقدمة، فندع ذلك لغيرنا، وإن كنا لا نَجهل أنه ربّما يفلت منا بعض ما يرمي إلى هذه الوجهة أحيانا من غير أن نتعمده، وشتان ما بين مشتغل بتاريخ الشيء، بإلقاء نظرات خاطفة على ألوانه، وبين مشتغل بدراسته الفنية، كما تقتضيه الدراسة الفنية من وضع الميزان القسط لكل شاذة وفاذة.
إننا سنهيئ إن شاء الله لِهذا الموضوع لِمن أراد أن يتخلل شعابه مستمدات كثيرة، نبذل فيها الآن جهودا غير قليلة، فلم ندع من مستطاعنا كل ما نقدر عليه فنحشر في كتبنا [120] الأدبية التي وضعنا الآن خطوطها الأولى () ما نحشر، وإنَّما نَهجنا أولا بِهذه النظرات السبيل كطعم لِمن سيبحث في مَجموعاتنا غدا، يوم يشتغل متفرغ لدراسة الأدب المغربي العام، فيقوم أيضا بين آداب نواحي المغرب بالواجب في دراسة هذا الأدب السوسي حق القيام، فلا حياة إلا بالأدب ولا أدب إلا بالفكر، ولا فكر إلا بالشعور، ولا شعور إلا بلطف الله (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ).
[121]
الأسر العلمية السوسية
¥