إذا انبرى العميد بألقه الجمالي عن ظاهرة أدبية فكرية كأبي العلاء المعري، أو عن هم تاريخي كظاهرة الشعر الجاهلي وجوداً، أو ثقافة البحر الأبيض المتوسط تمثلاً، أو مسائل الدين وأعلامه استشرافاً كالسيرة النبوية العطرة، أو الحكم في ثبوت شيء من القرآن الكريم الذي هو متواتر نقل كافة: فإنك في كل هذه النواحي تشمر تشمير العالم المفكر الورع، وتجعل الخلب (الطحسني) وسيلة للتعبير الأرقى المؤثر المعبّر عن مرادك، وقد تغمره - إن كنت ذا ذائقة جمالية - بكل إيقاع جميل.
ومقوم العالم الحصيلة ا الشك الديكارتي التوسلي الذي يبدأ بمسلمات ويقينيات ثم يبني عليها نتائج، وآفة هذا التطبيق هي الفهم السريع لشك ديكارت، إذ جعله شكاً سلوكياً لا ضرورة فكرية، ثم بدأ بعد الشك العبقرية النادرة (كالتدني الديني عند أبي العلاء)، والكفر الصراح في نقد كلام الله: هي التي تحرك دفين الورع لدى العالم المفكر .. وكل هذه المقومات الثلاثة تأبى أن تجعل الإعجاب بالمواهب فوق مقتضيات القيم البرهانية والخلقية والجمالية، وتأبى اقتراف التدليس أو الترحيب به بدافع الإعجاب بالعبقريات الحائدة .. وأشنع تدليس - بدافع الإعجاب بعميد الأدب طه حسين - ما مشى عليه جمهور الكاتبين عن أزمة طه حسين مع أمته عندما فُصل من الجامعة، وذلك بالتعليل بكتاب الشعر الجاهلي، ليظهر للناس أنه كتاب أدبي لا يصل خطره إلى هذه الأزمة، ومن ثم تكون الأزمة مفتعلة .. وأظهر من أسرف في هذه الدعوى سامي الكيالي في كتابه مع طه حسين .. وهذا تغرير بأمة من أجل فرد!!
إن الأزمة الحقيقية كانت عن كفريات طه حسين حول الأسلوب القرآني، فقد وصف المكي - تعالى الله عمّا يقول - بأن فيه كل مميزات الأوساط المنحطة، وتقطيع الفكرة، والقسم بالمخلوقات مما هو جدير بالجاهلية .. الخ.
وأثنى على السور المدنية ليؤكد فرية أهل الكتاب بأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ألّف القرآن من عنده مستفيداً من اليهود هناك (1) .. أما وثنية الأميين بمكة فلا تسعفه بذلك.
قال أبوعبدالرحمن: ولست أدري ماذا سيبقى من الإيمان إذا عيب كتاب الله لذاته، أو لدعوى تزويره من النبي المعصوم (2) صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن العميد مبتكراً لهذا الظلم العظيم، بل كان تقليد كفار أخذه الدكتور من المستشرق جرجيس سايل، ولم يشر إليه فيما ألقاه من دروس على طلابه بالجامعة .. وقد جوزي العميد بعد إدانته بعقوبة فَصلِه من الجامعة، فيالها من عقوبة!!.
هوامش
(1) انظر البحث النفيس للأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي بمجلة المنهل عدد الجمادين عام 1420هـ، ص120 - 123 .. والدعوى على طه حسين أقامها الدكتور عبدالحميد سعيد ببيان لخص فيه أفكار طه حسين، وانبرى للرد على العميد في الصحافة الغيورون المؤمنون أمثال محمد رشيد رضا، ومحمد من حزب الحكومة، وقد اشترك في الجهاد في حرب البلقان .. وكان الكيالي اعتبره نكرة، وتجاهل معرفة أي شيء عن سؤاله البرلماني بالبيان الذي طرحه عن الكفريات الصلع .. مع أنه رئيس جمعية الشبان المسلمين.
(2) قال أبوعبدالرحمن: بينت كثيراً أنه لا تلازم بين الكفر والتكفير، لأننا لا نقطع بالخاتمة ..
ـ[الاستاذ]ــــــــ[30 - 08 - 05, 01:57 ص]ـ
بين الفكر و الهاجس
يتساأل (1) أخي الفاضل حمد بن عبدالله التويجري عن الفرق بين الفكر والهجس والهاجوس والطاري، وعن علاقتها بالرأي، وأيهن الأوْلى؟ .. وزاده حيرة في معرفة كل ذلك قول حكيم العرب: دعوا الرأي حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير.
قال أبوعبدالرحمن: الفكر اسم لما ينتجه التفكير من تأمل عقلي .. والهجس مصدر هجس، واسم الفاعل ها موضوعاً للتفكير، إذن الهاجس موضوع للتفكير .. والطاري بلا همز من استعمال العوام، ويراد به ما يطرأ ع أبوطواري، وكل يوم له طاري .. والرأي نهاية التفكير، وهو ما يقف عنده العقل من حكم أو تصور، ولا علاقة لقول حكيم العرب بالحيرة في الفروق بين تلك الكلمات، والرأي الفطير هو البدوة الأولى للعقل، والرأي الخمير ما صدر عن تأمل وأناة وتبصر واستحضار وقائع.
الموسيقى الداخلية:
في رحلة أدبية فنية بصحبة رئيس كتبة هذه المجلة أخي الأستاذ حمد القاضي، ومحب الجميع أبي هشام عب سمعت تبرمه الذي هاتف به سموه حول غلبة النثر في الشعر، ولهذا كان كبار الملحنين ـ بل كبار المغنين ـ ضئيل من الموسيقى الداخلية والخارجية، وذلك هو الوتد المفروق لتحقيق عنصر النبر، وإيقاع النهاية، وهو الشرط العروضي للقافية .. هكذا لخص ذلك الأستاذ محمد البحراوي.
قال أبوعبدالرحمن: ويبقى مع ذلك للموسيقى الداخلية مطلب يحقق في الكلمة التي ستملأ الوتد المفرو بعد ضياع الألحان العربية، أو بتلحين بدائي ولو كان شعبياً، فإن اللحن هو الذي يفرض الكلمة الموسيقية تلقائياً.
والشعر الحر أحوج إلى الموسيقى الداخلية بعد التحرر من الشروط الصارمة الرتيبة للموسيقى الخارجية .. وكل الأبعاد التقنية والفكرية للشعر الحر شكلاً ومضموناً ستكون التعبير الجمالي الأعلى بالعنصر الغنائي.
وقد طُبّقت دراسات على الموسيقى الداخلية في شعر مهيار وشيخه الشريف الرضي والبحتري، وكانت دراسة نازك الملائكة لغنائية المهندس بداية ناجحة.
وغنائية الشعر التي تحرره من تبجح النظم ذي الكلمات النثرية مهمة كبرى للنقاد تقوم على الدراسة الوا هذه المستويات .. وإعادة تنظيم الأصوات توجِد الإيقاع، وإعادة تنظيم اللغة ـ على المستويين الصرفي والنحوي ـ توجِد صوره ومجازاته .. » (2).
وفسر الإيقاع بهيئة تنظيمه: بأنه ينظم أصوات اللغة على مسافات زمنية متساوية وفي أنماط خاصة، ولخص خصائص الصوت غنائياً بالعلو طولاً وقصراً، ونبراً وبدون نبر .. وبالدرجة وهي صفة النغمة، وبنوع الصوت الآدمي.
قال أبوعبدالرحمن: الخصيصة الأخيرة ليست من مهمة الشاعر، بل هي مهمة الملحن في أدائه، وفي ا بإشارات مجازية .. إن هذه العناصر الموجزة هي المتن الموجز لشرح عبقري من النقاد، وتمثل تلقائي فطري من الشعراء.
الحواشي
(1) هكذا أختار كتابتها، لأن لا مسوغ لأهل الرسم في تغيير صورة الألف المهموزة وسط السطر.
(2) انظر مجلة فصول: م4 يناير وفبراير ومارس عام 1984م، ص314.
¥