غير أن معرفة النحو ينبغي أن لا تدفع نحو الاعتداد والإسراع إلى تصحيح النصوص دون مراجعة وتبصر، فقد يكون ما في النص صحيحا ويصبح تصويبه خطئا، كما اشتهر عن بعض المحدثين، كما أنه قد يكون ما في النص لحنا ولا ينبغي تصحيحه إلا في الهامش لكونه صدر عن المؤلف لا عن ناسخ ضعيف المعرفة، ولأن مضمون النص يختل بإصلاحه، خاصة إذا كان في مجال المناظرة، وكان ذلك اللحن مادة لرد مناظر على مناظره، كما نجد في كتاب رسالة الحذار لأبي زيد عبد الرحمان التمنارتي في مناقشة خصمه محمد بن عبد القادر التاهرتي، حيث ورد قول التاهرتي في رسالته إلى التمنارتي:
" وحفاظ مذاهب السلف من علماء الخلف أوسع باع وأعظم همة وأكثر اطلاع منا ومن أشكالنا وأضرابنا بكثير." [17]
وقد رد التمنارتي هذا اللحن وعابه على صاحبه فقال:
"وأوتي هذا الرجل من عدم إدراكه لمقاصد الكلام وعدم ارتياضه بمدلولات تراكيبه التي تطلع على حقائق المعاني، لما فرط له في كثير من مثل ذلك ومن لحن العربية والهجاء الذي لا يغلط فيه صبيان المكتب." ([18])
كما أن المحقق يجب أن ينتبه إلى بعض الاستعمالات غير المشهورة في اللغة العربية، وقد تكون مما لم يجزه بعض النحويين ومن نماذج ذلك ما ساقه الدكتور اليزيد الراضي في دراسته العميقة لشعر الجشتيميين، من أشعار أحمد الجشتيمي، وهي:
- استعمال "سال" مكان سأل المهموز، وقد أجاز النحويون استعماله للضرورة، وقد أكثر الشاعر استعماله، كما في قوله:
وأساله تزويدك بالتقوى وأن
تلقى بكل توجه إفضاله
وأسال منك دعاء صدق دائما
للعبد أوجب ذنبه أهواله
- استعمال اللام في جواب القسم دون "قد"، في مثل قوله:
- لنبهتني لسبيل النجاح
وذكرتني بنداء الفلاح
- ولكنت فيه إمام حق يهتدي
بالرأي منك مشايخ الإقليم
فهذه الاستعمالات غير مشهورة في العربية لكنها مع ذلك جائزة والرجوع إلى الشعر العربي القديم والحديث النبوي ثم إلى الكتب النحوية تبرز سلامة لغة الشاعر.
إن هذه الأمثلة البسيطة التي سقناها هنا تبرز أن الإحاطة بأصول علم النحو والمراجعة الدائمة لكتب النحو مما ينبغي أن يحافظ عليه المتصدي للتحقيق حتى يصون عمله في التحقيق من الطعن على الفصحاء أو السهو عن اللاحنين.
ج – المعجم:
نص العلماء أن التعمق في معرفة الكلام العربي ومعانيه مما ييسر مهمة المحقق ويسهل إخراج النصوص المخطوطة وفهم معانيها، وللكلمة في اللغة العربية المعاني المتعدد وعلى المحقق أن يبحث عن المعنى المناسب للسياق الوارد في الكلام، ومهما بلغ علم الإنسان فلا تمكنه الإحاطة بدلالة كلمات اللغة كلها، فلابد له من الاستعانة بالمعاجم وكتب اللغة، حسب أنواعها:
- معاجم اللغة: هناك معاجم الألفاظ كلسان العرب لابن منظور المصري وتاج العروس للزبيدي، ومعاجم المعاني كالمخصص لابن سيده وفقه اللغة للثعالبي ومعاجم الأساليب مثل جواهر الألفاظ لقدامة بن جعفر والألفاظ الكتابية للهمذاني.
- معاجم المصطلحات: وقد لا تسعف المعاجم الباحث المحقق لنيل بغيته فيقف أحيانا على كلمات لم ترد في أي منها أو لم يرد بها المعنى المذكور في نص من النصوص، مما يدعو إلى مزيد من البحث في المعاجم المتخصصة حسب موضوع المخطوط، فتراجع معاجم غريب القرآن والحديث ومعاجم المصطلحات القديمة والحديثة.
ولمعاجم المصطلحات أهميتها فإذا كان المعنى المعجمي هو القاسم المشترك بين عدة معان فإن المعنى الاصطلاحي يتصف بالخصوصية، إذ هو معنى دقيق متفق على معناه في مجال معرفي معين، وهو ما عبر عنه الأقدمون وخاصة الجاحظ بقوله أن لكل قوم ألفاظا ولكل صناعة ألفاظ، فيعني اللفظ عند جماعة ما لا يعنيه عند آخرين، ومن معاجم المصطلح عند الأقدمين معجم مفاتيح العلوم للخوارزمي، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي .. وغيرها. ويدخل ضمن المصطلحات تلك المختصرات التي درج العلماء على استخدامها للدلالة على عبارات أو مصطلحات أو أسماء أعلام أو كتب سواء كانت كلمات كاستعمال فقهاء الحنفية "المشايخ" للدلالة على من لم يدرك الإمام أبا حنيفة، ([19]) واستعمال المالكية عبارة "القضاة الثلاثة" للإشارة إلى علي بن أحمد القصار وعبد الوهاب بن نصر وسليمان بن خلف الباجي، ([20]) أو كانت حروفا أو حرفا مفردا، -كاستعمال الحنابلة " لو" للخلاف الضعيف، و"حتى" للخلاف القوي في
¥