ولا يظن أحد أن الصيغة الوحيدة لسقوط الحضارات وهلاك الأمم هي في ذلك الأسلوب الذي تحدث عنه القرآن هو الدمار المباشر الذي حاق بعدد من القرى عبر عصور تاريخية متقدمة بسبب مواقفها الجائرة من دعوات الأنبياء والرسل، كلا إن الأمم الظالمة المنحرفة والمجتمعات الفاسدة غير الصالحة للبقاء التي أخذت الجزاء من جنس عملها، والتي ما زالت هي أمام قوتين: سخرهما مالك الملك لتحقيق أمره وتنفيذ سنته، القوة المادية المنظورة والقوة الروحية غير المنظورة، والناس في الأولى يمرون في الآثار الباقية ويقرءون في التاريخ نماذج شتى من تسخير الله للطبيعة في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وذلك كالسيول الجارفة والرياح العاصفة والهزات العنيفة والصيحة والرجفة، والغرق، وإن اختلفت التعليلات والتصورات لأسباب حدوث هذه العوامل المدمرة بين الاتجاهات والمذاهب التفسيرية.
أما صيغة القوة الثانية اللامرئية غير المنظورة فهي صيغة روحية معنوية أكثر شمولية وأشد خطراً، وهي التي تحتضر بها الأمة المصابة كثيراً، وسنة الله أن تنشأ أضرارها من داخل النفس الإنسانية، وهي أن كل فرد يحيد عن الاستقامة ويزيغ عن أمر ربه يصاب باليأس والإحباط والقنوط وفشل الإرادة أو بالغرور والتجبر والظلم والعدوان، وأخف الأمراض من هذه أشر من الآخر.
وحتى لا يحسب الإنسان المعاصر نفسه أنه أصبح بمفازة ومناعة من هذه الأمراض والمهالك مع أنه يأتي أسبابها ويمارس عواملها ـ لمجرد انتمائه لعصر التكنولوجيا والازدهار الطبي وتقدم وسائل العلاج، فليقرأ عن هذه الأمراض في الحضارة الغربية المعاصرة وما تفعله في أكبر عواصمها وما يعانيه أبناؤها من دمار وانتحار، ولأمر بسيط جداً وهو أنهم زاغوا عن أمر الله فحق عليهم قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين).
ويقيناً في عدالة الرحمن انه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأهل تلك القرى الظالمة التي سبقتهم في التاريخ والتي قال الله في أهلها: (فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين).
وسنة الله سائرة، ثابتة، باقية ببقاء الخلق، ومن عدل الله في الإنسانية ألا يخص الأمم بنوع واحد أو صيغة واحدة من الدمار والسقوط بل جرت سنته تعالى بتنويع العذاب وكثرة ألوانه واختلافها بطرق عديدة (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر).
وبحسب فساد الأمة وانحرافها كما ذكرنا يكون الهلاك والتعذيب الذي قد يجئ صاعقة، أو غرقاً، أو فيضاناً، أو ريحاً، أو خسفاً أو قحطاً، أو مجاعة وارتفاعاً في الاسعار، أو امراضاً، وأوجاعاً، أو ظلما وجوراً أو فتناً واختلافاً بين الناس، أو مسخاً في الصور والأشكال كما فعل ببني إسرائيل، أو ضعفاً في القلوب، ووهنا في النفوس كما هو حالة الأمة الإسلامية.
فعن هلاك قوم نوح عليه السلام يقول تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).
وعن عاد قال تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون).
وعن ثمود قال تعالى: (وأما ثمود فأهلكوا بالطاغية).
والطاغية هي الصاعقة.
وهكذا كل الأمم آتاها ما يناسب إجرامها، ففي الغرق يقول الله: (فأغرقناهم في اليم).
وفي الريح يقول تعالى: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية).
وفي الصاعقة يقول تعالى: (فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون).
ويقول في الخسف (فخسفنا به وبداره الأرض)، وهو قارون.
ويقول تعالى في القحط والمجاعات والارتفاع في الأسعار وانتشار الأمراض (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).
ويقول تعالى في الفتن بين الناس والتشيع للأفراد: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون).
وقيل أن العذاب من فوق قد يكون هو القذف بالقنابل على الناس من الطائرات والعذاب من تحت قد يكون هو الألغام التي اعتاد المقاتلون استعمالها في الحروب، وقيل ليس الشيع هي كثرة الفرق والمذاهب المتناحرة والمتخاذلة.
ويقول تعالى عن مسخ الصور: (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
¥