تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومما يجدي أيضاً مع أطفالنا في هذه المرحلة: الحوار الهادئ الهادف، وليس (الحوار السلطوي الذي يعني: " اسمع واستجِب "، ولا الحوار السطحي الذي يتجاهل الأمور الجوهرية، أو حوار الطريق المسدود الذي يقول لسان حاله: " لا داعي للحوار فلن نتفق "، أو الحوار التسفيهي الذي يُصِرُّ فيه الأب على ألا يرى شيئاً غير رأيه، بل ويسفِّه ويلغي الرأي الآخر، أو حوار البرج العاجي الذي يجعل المناقشة تدور حول قضايا فلسفية بعيداً عن واقع الحياة اليومي، ... وإنما الحوار الصحي الإيجابي الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات، وأيضا إمكانات التغلب عليها. وهو حوار متفائل - في غير مبالغة ساذجة- وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي، ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر، وآداب الخلاف وتقبله. وهو حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية واتصاله هذا ليس اتصال قبول ورضوخ للأمر الواقع، بل اتصال تفهم وتغيير وإصلاح؛ وهو حوار موافقة حين تكون الموافقة هي الصواب ومخالفة حين تكون المخالفة هي الصواب، فالهدف النهائي له هو إثبات الحقيقة حيث هي، لا حيث نراها بأهوائنا وهو فوق كل هذا حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات (22).

(ولنأخذ مثلاً للحوار الإيجابي من التاريخ الإسلامي، وقد حدث هذا الحوار في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم وهنا نهض الحبَّاب بن المنذر رضي الله عنه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهو منزِل أنزلَكَهُ الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فأجاب الرسول الكريم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال الحباب: يا رسول الله ما هذا بمنزل، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول بهذا الرأي الصائب فكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة.

وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحبَّاب بن المنذر كان مسلماً إيجابياً على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولاً إن كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشرى، فلما عرف أنه اجتهاد بشرى وجد ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين. وهذا الموقف يعطينا انطباعا هاما عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبُّل النصيحة.

وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقى فوق ذلك حيث أنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جنديا من عامة الناس تحت لواء رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وهو أعلى المستويات من حرية الرأي (23)

ومن خلال الحوار الهادئ مع أبنائنا ... يمكن أن نوضح أن التائب حبيب الرحمن، وأن الكائنات تستأذن الله تعالى كل يوم لتُهلك ابن آدم الذي يأكل من خير الله تعالى، ثم لا يشكره، بل ويعبد غيره!! ولكنه سبحانه يظل يقول لهم: (ذروهم إنهم عبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم)، وهو الذي قال في حديث قدسي أن البشر إن لم يخطئوا لذهب الله بهم وأتى بخلق آخرين، يذنبون فيغفر لهم؛ وهو الذي يهرول نحو عبده الذي يمشي نحوه، وهو الذي يتجاوز عن العبد ويستره، ويحفظه، ويرزقه، مع إصراره على المعصية، ويظل يمهله حتى يتوب، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة، وهو الذي سمى نفسه " أرحم الراحمين "، و" خير الغافرين "، و" خير الرازقين "، و" خير الناصرين " وهو الذي قال في كتابه الكريم: {إن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعا}!!!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير