[رمضان وصور من الأمس واليوم]
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[11 - 11 - 2002, 10:54 م]ـ
رمضان بين الأمس واليوم
-0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0 - 0
رمضان .. يا نفحات من الجنات .. تأتي في العام مرة فتتعلق بك القلوب .. قبل مجيئك تنتظرك بلهفة وشوق .. وعند حلولك تستقبلك بفرحة وإقبال .. وعند رحيلك تودّعك بدموع محبّ صادق. 0
رمضان .. كنت محور العام كله .. يقضي الناس ستة أشهر قبلك يدعون الله أن يبلّغهم إياك، وستة أشهر بعدك يدعون الله أن يتقبل منهم طاعاتهم، وهم يكتسبون فيك عاماً بعد عام قوة إيمانية وعلواً نفسياً و طهارة قلبية، فلقد كنت مصفاة لقلوبهم .. ينقّونها من شوائب الدنيا ويغسلون عنها أدرانها، ومطهّرة لنفوسهم يتحلّلون من أمراضها، ورياضة لأبدانهم يقوّونها ليستعينوها على الطاعة، ومقبرة لأهوائهم يدفنونها ليتخلصوا تماماً من أسباب الأرض و نداء الطين؛ فأنت حقاً مدرسة التزكية الكبرى!
رمضان. . صرت لا تذكر إلاّ قبل قدومك بقليل، وعندما تأتي يتمنى بعض رحيلك سريعاً! ويتبرّم بعض من نهارك، ويتأفف آخرون من صيامك! وعندما تذهب يفرح بعض بانقضائك، ويودعك بعض بأسى تحسراً على مجالس الليل العامرة و موائد الطعام الفاخرة، ويخرج منك هؤلاء و أولئك كما دخلوك أول مرة، قد حُرموا من خيراتك فلم يحظوا بشيء من كنوزك، ولم تصبهم بعض رحماتك، أو ترقّق قلوبهم نفحاتك، خرجوا بأيدٍ فارغة وقلوب خاوية وسينسونك جميعهم حتى يقرب موعدك من العام المقبل!
رمضان .. كنت موسم المتاجرة الكبرى مع الله، يعقد المؤمنون فيك الصفقات الرابحات .. يعطونك حبهم و إخلاصهم ودعواتهم ودمعاتهم .. يرجون رضا الله ويشترون منه سلعته، وسلعة الله غالية، فسلعة الله الجنة، لذا فأنت تستقبل بالبرّ و الإحسان و إيتاء القربات والإكثار من الطاعات، وتهيئة النفس لحسن الضيافة .. ترجب بك المساجد المعمورة، وتنصب لك حلقات الذكر، وتبسط فيك موائد الرحمن كما تبسط الأكفّ الداعية المتضرعة إلى الله بجنان خائف طامع، وتصافحك عند إطلالتك الأنفس العطشى و القلوب اللهفى التي تبسط لك شرايينها وأوردتها وتنتصب شعيراتها و تتحفّز دماؤها احتضاناً لك وسعادة بحلولك وأُنساً بصحبتك و إظهاراً لكل هيبة و إجلال يليقان بمقامك الكريم!
رمضان .. صرت لدى الكثيرين شهر الإتجار في أوقات الناس و أعمارهم وعقولهم و أموالهم، تعدّ لاستقبالك البرامج والمسابقات وتجهّز الفوازير و المسلسلات، ويشتدّ التنافس بين المحطّات لتقديم الأضخم و (الأتفه!) خلال أيامك المباركات، حين تأتي تصافحك الروائح الزمية والجوائز السنية، وتنصب لك خيم السهرات و صالات الألعاب، وتبسط فيك المآدب وتعرض الأكلات المنوعة، وترتفع فيك مستويات الإنفاق إلى الضعف إن لم يكن أكثر!
رمضان .. كنت الشهر الذي تزدحم فيه المساجد، وتكاد تخلو البيوت إلاّ من النساء والأطفال، وتكون لقاءات الناس فيك في بيوت الله (المساجد) وفي رياض الجنة (مجالس العلم) وعلى مأدبة الرحمن (القرآن).
رمضان .. صرت الشهر الذي تزدحم فيه الموائد في الخيم والصالات، حيث تقضى الأوقات في (السخافات!) ومشاهدة المهرجين، والتصفيق لمزامير الشيطان! واسأل الأسواق كم ضاقت بمن فيها من المتسكّعين والمتبرجات .. عفواً؛ المتسوقين والمتسوقات!
رمضان .. كنت الشهر الذي يزداد فيه العبد تقرباً من ربه، وتقوى أواصر العلاقات بين الناس، ويكثر التزاور بين الأرحام.
رمضان. .صرت الشهر الذي يزداد فيه الناس تعلقاً بشاشات المحطات الفضائية، وتشبثاً بالملاهي الدنيوية، وتتم اللقاءات فيك بين الناس (مصادفة) في الطرقات أو في مراكز التسوق، وعلى موائد (الشيشة) واللهو اللعب!.
رمضان .. كنت الشهر الذي يعطّر نهاره بالأذكار، والأعمال الصالحات، ويعبق ليله بأريج الدعوات وتلاوة الآيات، وتعمر فيه مجالس العلم، وتثار القضايا الجادة والمناقشات المثمرة، فأيامك تقضى في الصيام المخلص والعمل المصلح، وتقام لياليك بالصلوات و التلاوات الندية لكتاب الله عز و جل، فالطاعات فيك متصلة آناء الليل و أطراف النهار.
رمضان .. صرت الشهر الذي تعلو فيه صيحات المذيعين وصراخ المذيعات، وتتصاعد فيه حملة المعلنين والمغرضين .. صرت الشهر الذي يقضى نهاره في النوم، وليله في المهرجانات، ويفرّط بأيامك أعظم التفريط! وتقام لياليك بجلسات الغيبة والنميمة والصخب والجدال، ويمتدّ الحديث فيك إلى مطلع الفجر لغواً وثرثرة وعبثاً!.
رمضان .. كنت الشهر الفتوجات .. كنت شهر التحرر من العبودية للدنيا، وكنت شهرالانتصارات على الأعداء و أولّهم الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
رمضان .. صرت شهر النجذاب إلىمباهج الدنيا، والانكفاء على ملذاتها، واستمراء الذلّ والرقّ، وتمريغ الكرامة في الرغام، والتناوم عن الأمم المتكالبة والمتحالفة، وغضّ الطرف عن الدماء المُراقة، والحقوق المُهدرة!
رمضان .. كنت شهر الكرم والعطاء، وما زلت، فأمّتنا إن تخلّت عن أمجادها وانتصاراتها، وتنازلت عن مكانتها، ولم تأبه بتقدّمها العلمي أو سموّها الروحي، فإنها لا تتخلى عن عاداتها الأصيلة، ولا تفرّط في قيمها وتقاليدها! و هاهي تجود بثروتها الفتية .. بأرواح أبنائها وتقدّم أجمل أزهارها باقات نورانية تزيّن مواكب الشهداء، وها هي تضرب أمثلة البذل والعطاء في الأموال، فتزجيها كثيرة وافرة، وتنفق ما لا ينفقه غيرها، متشبثة بصيتها المعهود وكرمها المشهود!
¥