تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وشطحات .. والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم (8)، فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه، ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم .. واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم وجُنة حتى قال قائلهم:

ومنك بدا حب بعزٍّ تمازجاً

بنا ووصالاً كنت أنت وصلته

ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه

وكان بلا كون لأنك كُنْته

فيسمع الغِرُّ التمازج والوصال؛ فيظن أنه سبحانه نَفْسُ كونِ العبد (9)، فلا يشك أن هذا هو غاية التحقيق، ونهاية الطريق .. ثم لنرجع إلى شرح كلامه (يعني شيخ الإسلام إسماعيل الهروي) .. وقوله (يُدرج حظ العبودية في حق الربوبية) المعنى الصحيح الذي يُحمل عليه هذا الكلام أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات، وصفا له علمه وحاله: اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا؛ فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه؛ لاحتقاره له، وقلته عنده، وصغره في عينهِِ (10)، ثم قال ابن قيم الجوزية مفسِّراً كلام الهروي رحمهما الله تعالى: ِِقوله: (ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان) الخبرُ متعلَّق الغيبِ، والعيان متعلَّق الشهادة، وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر، وثبوت مَخْبَرِه (11) ومراده ببدايات العيان أوائل الكشف الحقيقي الذي يُدخَل منه إلى مقام الفناء (12)، ومقصوده أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عياناً (13) .. قال الله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (سورة سبأ/ 6) (14)، وقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (سورة الرعد/ 19)؛ فقد قال: (أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك؟) (15)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يُقوِّي القلب حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهدة بالعين (16)، فصاحب هذا المقام كأنه يرى ربه سبحانه فوق سمواته على عرشه مُطَّلعاً على عباده ناظراً إليهم يسمع كلامهم ويرى ظواهرهم وبواطنهم، وكأنه يسمعه: وهو يتكلم بالوحي، ويكلم به عبده جبريل، ويأمره وينهاه بما يريد، ويدبر أمر المملكة (17) .. وأملاكه صاعدة إليه بالأمر، نازلة من عنده به .. وكأنه يشاهده وهو يرضى ويغضب ويحب ويبغض، ويعطي ويمنع، ويضحك ويفرح، ويثني على أوليائه بين ملائكته، ويذم أعداءه .. وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين وقد قبضت إحداهما السموات السبع، والأخرى الأرضين السبع، وقد طوَى السموات السبع بيمينه كما يطوى السِّجلُّ على أسطر الكتاب .. وكأنه يشاهده وقد جاء لفصل القضاء بين عباده؛ فأشرقت الأرض بنوره ونادى وهو مستوٍ على عرشه بصوت (18) يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب: (وعزتي وجلالي، لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم) .. وكأنه يسمع نداءه (سبحانه وتعالى) لآدم (عليه السلام): (يا آدم: قم، فابعث بَعْث النار بإذني الآن، وكذلك نداؤه لأهل الموقف (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (سورة القصص/ 65)، وماذا كنتم تعبدون؟ (19)، وبالجملة فيشاهد بقلبه ربّاً عرَّفت به الرسل كما عرفت به الكتب، وديناً دعت إليه الرسل؛ وحقائق أخبرت بها الرسل؛ فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر وإن لم يره من البلاد والوقائع؛ فهذا إيمانه يجري مجرى العيان، وإيمان غيره فمحض (20) تقليد العميان .. وقوله: (ويطوي خسة التكاليف) ليت الشيخ عبَّر عن هذه اللفظة بغيرها، فو الله إنها لأقبح من شوكة في العين، وشجى في الحلق .. وحاشا التكاليف أن توصف بخِسَّة، أو تلحقها خسة؛ وإنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح .. صدَر التكليفُ بها عن حكيم حميد؛ فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد (21) .. نعم لو قال: (يطوي ثقل التكاليف، ويخفف أعباءها) (22) ونحو ذلك فلعله كان أولى، ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيئ به الظن (23) .. والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير