يقال: لا ريب أن هذا شرع دين لم يأذن به الله، والعلماء به وأهل خشيته لا يجرؤون هذه الجراءة العظيمة، فينطقون بهذه الجملة الشاملة العميمة، إنما النطق بمثلها يكون ممن إليه التشريع صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: " يابني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ".
لقد جهل هذا الرجل نفسه. وتحت هذه الجملة من الجهل والقول على الله ورسوله ما لا يعلمه إلا الله ثم العلماء بشرعه ودينه.
وقضية هذا العموم أن من رمى أية ساعة من ليلة النحر أو غيرها من الليالي أو أية ساعة من يوم عرفة أو ما قبلها أو ما بعدها من يوم النحر وأيام التشريق أو ما بعد أيام التشريق أجزأه، كالعموم الذي تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم في الطواف بالبيت والصلاة عنده:" أية ساعة شاء من ليل أو نهار" ().
فإن قيل: لا يلزم من إطلاقه هذا العموم والشمول.
قيل: بلى، لأن المقام مقام توقيت وعدمه فيكون إطلاقه نافياً للتوقيت مطلقاً.
إذا علم هذا فإن رمي الجمرات أيام التشريق الثلاثة لا يصح قبل الزوال: بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى? وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? ().
وأما السنة فرميه صلى الله عليه وسلم بعد الزوال على وجه الامتثال والتفسير المفيد للوجوب، كما في حديث جابر، وحديث ابن عمر وحديث ابن عباس،وحديث عائشة،وقوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " وقد تقدمت.
وأما الإجماع فأمر معلوم، وقد نص عليه في بعض كتب الخلاف والإجماع. ولا يرد عليه ما ذكره هذا الرجل عن طاووس وعطاء وغيرهما فإن هذا لا يعد خلافاً أبداً، ولا يعتبر خلافاً عند العلماء، لأنه لاحظ له من النظر بتاتاً، بل هو مصادم للنصوص.
وأيضاً كلامه هذا مناقض لما قدمه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وأُغيلمة بني عبد المطلب أن يرموا قبل طلوع الشمس مما يدل على أن الرمي موقت محدد.
وزعمه أنه لا يحسن الإفتاء بتحديد وقت رمي الجمار أيام التشريق بما بين زوال الشمس وغروبها في مثل هذا الزمان. إلى آخره.
يقال: التوقيتات الشرعية للعبادات لا تتغير الفتوى فيها أبداً وقائل ذلك يلزمه في هذه المقالة ما لو طرد لأتى بالأبطال على أكثر العبادات الشرعية المؤقتة بالأوقات بإخراجها عن وقتها بتقديمها عليه المفوت شرط صحتها وغير ذلك، وتوقيت الرمي زمن النبي صلى الله عليه وسلم هو وقته اليوم ووقته إلى يوم القيامة. والمريض الشديد المرض وغيره من أرباب الأعذار لا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بدون نية الجمع بشرطه، كما لا يجوز له إجماعاً تقديمها أو بعضها على وقتها. فما بين زوال الشمس وغروبها هو وقت الرمي مطلقاً، لما تقدم. فإذا تحقق العذر في ترك مباشرة الرمي انتقل إلى البدل المدلول على صحته بالسنة كما تقدم، ودل على وجوبه قوله تعالى:?فاتقوا الله ما استطعتم? () فإن تقوى الله سبحانه ليست مختصة بالمباشرة ـ كما فهمه هذا الرجل مما يقتضي أن الإنسان إذا عذر في ترك المباشرة يبقى غير مأمور بتقوى الله ـ بل هو وإن عذر في المباشرة يبقى عليه من تقوى الله أشياء أخر، وذلك بأن يصير إلى البدل فيما له بدل، وبأن يستنيب فيما تدخله النيابة وأن يفدي فيما تجب فيه الفدية. وحينئذ يعرف أنه لا ملازمة بين الرخصة في عدم المباشرة للواجب وبين أن يبقى الإنسان غير مأمور بالتقوى فتقوى الإنسان الصحيح أو المريض القادر على القيام ربه هي أن يصلي الفرض قائماً. وتقوى من لا يقدر على القيام ربه أن يصلي جالساً. وتقوى العاجز عن الصلاة جالساً ربه أن يصلي مضطجعاً.
قوله: والعاقل إذا رأى ما يفعله الناس عندها يعلم على سبيل اليقين أن فعلهم بعيد عن مقاصد الدين، لأن الله سبحانه وتعالى لم يتعبد عباده بالهلكة وأنه لا بد أن يوجد في الشريعة السمحة ما يخرج الناس عن هذه المآزق الخطرة إلى الرحب والسعة، لأن من قواعد الشرع أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير وأنه يجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما.
¥