ـ[الفهمَ الصحيحَ]ــــــــ[08 - 04 - 06, 01:11 م]ـ
ومن المباحث الدقيقة المتعلقة بالمدونة؛ مسألة اختلاف شارحيها في فهم مسائلها، هل تعد أقوالا في المذهب أم لا؟
وقد وقفت على مبحث مصغر حول هذا الأمر في مقال للأستاذ: عبد السلام العسري [تعدد الأقوال والروايات في المذهب المالكي وطرق الترجيح بينها] جمع فيه أقوال بعض أئمة المالكية في هذه المسألة، مع شئ من البيان والإيضاح لمرامي أقوالهم، فأحببت نقله هنا لما فيه من الفائدة.
أرجع الأستاذ العسري في بحثه أسباب تعدد الأقوال في المذهب إلى أمرين:
الأول: ناتج عن اجتهاد أصحاب الإمام.
والثاني: ناتج عن شرح المدونة التي تعتبر المصدر الأساسي للفقه المالكي.
ثم أردف ذلك موضحا:
(وأما الأمر الثاني،أي: تعدد الأقوال نتيجة لشرح المدونة نلخص أسبابه فيما يلي:
- تعددت الأقوال عند شرح مسألة من مسائل المدونة، بسبب اختلاف الشراح في فهم المراد من لفظ المدونة في تلك المسألة.
- قد تكون هناك أقوال خارج المدونة، فيريد كل شارح لها أن يحمل لفظ المدونة على قول من تلك الأقوال.
ـ قد ينظر شراح المدونة في الأدلة الشرعية فيقتضي نظر أحدهم فيها خلاف مقتضي نظر الآخر، فيحمل كل منهم نص المدونة على ما اقتضاه نظره، فتكون تأويلاتهم للفظ المدونة أقوالا حقيقية لا مجرد تفاسير للفظها.
والملاحظ أن الشيخ خليل في مختصره، عبر عن اختلاف شراح المدونة في الفهم بالتأويلين والتأويلات، ولم يعبر بالقولين والأقوال، وذلك لاختلاف الفقهاء المالكيين هل تعد تلك الاختلافات الواقعة في فهم تلك المسألة أقوالا أم لا؟
ونعرض فيما يلي رأي كل فريق:
رأي ابن عبد السلام ومن تبعه:
يذهب ابن عبد السلام الهواري التونسي (ت 749هـ) ومن اتبعه إلى أن اختلاف شراح المدونة في معنى المسألة لا يعد أقوالا فيها، لأن الشراح إنما يبحثون عن تصوير اللفظ وتوضيحه، والقول الذي ينبغي أن يعد خلافا في المذهب هو ما يرجع إلي التصديق، أي أدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، وذلك أن الشراح للفظ الأمام, إنما يحتجون على صحة مرادهم بقول ذلك الإمام وبقرائن كلامه من عود ضمير وما أشبهه, وغير الشراح من أصحاب الأقوال, إنما يحتج لقوله بالكتاب والسنة أو بغير ذلك من أصول صاحب الشريعة، فلا ينبغي أن تعتبر تلك التفسيرات المتعلقة بالمسألة كأنها أقوال متضمنة لأحكام مختلفة، وإنما ينبغي أن يعد الكلام الذي شرحوه قولا، ثم الخلاف إنما هو في تصوير معناه، لأن مراد الشارح تصوير معنى من اللفظ وبيان مراد صاحبه به، سواء أكان في نفسه صحيحا أم فاسدا، ومراد صاحب القول بيان حكم المسألة، من حيث الثبوت والانتفاء، أو الصحة والبطلان، وإلى رأي ابن عبد السلام الهواري ذهب ابن عاصم في أرجوزته مرتقى الأصول حيث قال:
وكل ما فهمه ذو الفهم - - ليس بنص لعروض الوهم
فالخلف بين شارحي المدونة - - ليس بقول عند من قد دوّنه
لأنه يرجع للتصور - - فعده قولا من التهور
رأي ابن الحاجب وكثير من المتأخرين:
يرى هؤلاء أن اختلاف شراح المدونة يعد أقوالا فيها، لأن الاختلاف في فهم اللفظ؛ آيل إلى الاختلاف فيما ينبني على ذلك من أحكام، فكل شارح يقول: هذا معنى هذه المسألة، ولا معنى لها غيره، فآل الاختلاف في معنى اللفظ إلى الاختلاف في الأحكام المأخوذة من معنى ذلك اللفظ، ولو لم تكن تلك التأويلات أقوالا يجوز العمل بها؛ لم تكن لها فائدة، وتكون باطلة، وتصير المسألة المشروحة ملغاة، إذا لم يترجح تأويا أحدهما على الآخر بمرجح.
ويوضح الشيخ عليش هذا الرأي فيقول: " إن مفهومات الشراح منها – أي المسألة المشروحة – يعد أقوالا في المذهب، يعمل ويفتى ويقضى بأيها إن استوت، وإلا فبالراجح أو الأرجح، وسواء وافقت أقوالا سابقة عليها منصوصة لأهل المذهب أم لا؟ وهذا هو الغالب، فإن قيل: المدونة ليست قرآنا ولا أحاديث صحيحة، فكيف تستنبط الأحكام منها؟ قيل: إنها كلام أئمة مجتهدين عالمين بقواعد الشريعة والعربية، مبينين للأحكام الشرعية، فمدلول كلامهم حجة على من قلدهم منطوقا كان أو مفهوما، صريحا كان أو إشارة، فكلامهم بالنسبة له كالقرآن والحديث الصحيح بالنسبة لجميع المؤمنين!! ".
¥