وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنا، وتمييزا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك، والأئمة -رحمهم الله- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئا لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قوله: ((لعله إذا رد بعض قوله)) أي قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)) نبه -رحمه الله- أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)). اهـ
قال الشيخ العلامة محمّد تقي الدين الهلالي رحمه الله: ((كل من اتخذ رجلاً غير النبي صلى الله عليه وسلّم حجة يحلل به، و يحرم به، دون أن يسأله عن دليل ما أفتى به، تحسيناً للظن به، واعتقاداً منه أنه لا يخطئ حكم الله أبداً، فقد اتخذ ذلك الشخص رباً دون الله.
وإليك برهانه: قال حافظ المغرب الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الذي شرح الموطأ ثلاثة شروح في كتابه جامع بيان العلم و فضله ما نصه: ((قد ذم الله تبارك و تعالى التقليد في غير موضع في كتابه فقال: ((اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله)) و روى عن حذيفة و غيره قالوا: ((لم يعبدوهم من دون الله ولكن أحلوا و حرموا عليهم فاتبعوهم)).
قال عدي بن حاتم: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم و في عنقي صليب فقال: يا عدي ألق هذا الإثم من عنقك وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)) قال: قلت: يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أرباباً. قال: بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه فقلت: بلى فقال: تلك عبادتهم)).
قال محمد تقي الدين: وروى الإمام ابن عبد البر آثاراً في هذا المعنى، و بيان ذلك أن الحكم الشرعي لا يجوز أن يكون لأحد إلا لله فهو كالصلاة والصيام وسائر العبادات فمن جعله لغير الله فقد أشرك وقال تعالى في سورة الشورى: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله))
و قال تعالى في سورة المائدة: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون))
و قال تعالى في سورة الشورى: ((وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله))
و لا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا في كلام الله وكلام رسوله لأنه معصوم.
قال تعالى في سورة النجم: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))
واعلم أن ما فرضه الله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسائر القرون المفضلة هو الذي فرضه الله على سائر المسلمين إلى يوم القيامة، وما ابتدع بعدهم في الدين فهو ضلال لا يقبله الله و لا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلّم أبداً، فالتفرق إلى مذاهب و طرائق وشيع أو فرق كله ضلال .... (الحسام الماحق)
الصحابة يضربون أروع الأمثلة في الرجوع إلى السنّة عند النّزاع:
أخرج ابن عبد البر بإسناده في تمهيده (23/ 48 وما بعدها بتصرّف):
((اجتمع أبو هريرة وعبد الله بن سلام فذكروا عن النبي الساعات التي في يوم الجمعة وذكر أنه قالها.
فقال عبد الله بن سلام: (أنا أعلم أية ساعة هي: بدأ الله عز وجل في خلق السماوات والأرض يوم الأحد وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فهي آخر ساعة من يوم الجمعة).
وفي قول عبد الله بن سلام كذب كعب ثم قوله صدق كعب دليل على ما كان القوم عليه من إنكار ما يجب إنكاره والإذعان إلى الحق والرجوع إليه إذا بان لهم.
... وفي قول أبي هريرة: (أخبرني بها ولا تضن علي) أي لا تبخل علي، دليل على ما كان القوم عليه من الحرص على العلم والبحث عنه.
¥