ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[08 - 03 - 09, 08:31 م]ـ
رأي مالك رحمه الله وأصحابه:
قال في المغني (10/ 54): "قال مالك في الإباضية وسائر أهل البدع: ((يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم)). قال القاضي إسماعيل بن إسحاق البغدادي المالكي [معقّبًا]: رأي مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم". اهـ، وذكر نحوه ابن عبد البر في التمهيد.
مقتضى رأي مالك فيهم أنهم بغاة، وأنه يلزم قتلهم إذا أظهروا بدعهم أو خرجوا لطلب الحكم، وظاهر أنه استدل على قتلهم بالقياس على آية الحرابة، ويفهم منه أنه إذا استتروا وأخفوا بدعهم تركوا؛ إذن خالف الجمهور فقط في حال إظهارهم بدعهم دون خروج كما سيأتي بيانه.
فإن قيل: بل مالِك يراهم محارِبة لأنه يستدل عليهم بآية الحرابة، وأنت تقول يراهم بغاة؟!
فالجواب: نعم يراهم بغاة لأن المحاربة لا يستتابون بعد القدرة عليهم بل يُعمل فيهم نص الآية.
فإن قيل: إذن يراهم هم والمحارِبة كفارا مرتدّين لأنه يرى استتابتهم وإلا قتلوا؟
فالجواب: لا يستقيم هذا؛ لأن الآية خَيّرتْ بين النفي والقتل لمن لم يتب، والمرتد لا يُخيّر.
فإن قيل: كيف يعمل بآية الحرابة وفي آية البغي الغنية، وهي العمدة في حرب المتأولين؟
فالجواب: بل عمل بآية البغي؛ ألم ترَ إلى قوله تعالى: ?فأصلحوا بينهما بالعدل? هي ردّ الغالي ومدّ الجافي إلى النمط الوسط الذي يلتقي فيه جمع الأمة، وليس يَرُدّ البغاةَ إلا التوبة؛ فمالك يستتيبهم عملاً بمجمل آية البغي، فإن تابوا وإلا قتلوا عملاً بعموم آية الحرابة في المفسد في الأرض، وإفساد الإباضية في الدين من حيث أظهروا بدعهم ودعوا إليها؛ فإن لم يدعوا إليها كانوا بمنزلة الفايئين إلى الحق، والله أعلم.
فإن قيل: وهل يصح تجزّأ الحكم على الدليلين؟
فالجواب: نعم، والجواب من وجهين:
الأول: أن العمل بالدليل الثاني يكون فيما سكت عنه الدليل الأصلي للحكم، وأمثلته كثيرة جدا.
الثاني: على أصول مذهب مالك في مراعاة الخلاف؛ أي نعمل بالدليل الأصلي ولازم دليل المخالف، مثاله: يرى مالك فسخ نكاح الشغار إلا أنه يحكم بثبوت التوارث بين الزوجين عند موت أحدهما إعمالا لدليل المخالف القائل بعدم الفسخ.
فإن قيل: ما الداعي إلى كل هذا التأويل، وكان يكفي فيهم التأديب والتعزير بدل القتل؟
فالجواب: الحامل على ذلك سد ذريعة الإفساد في الدين، ومالك رحمه الله على مذهب الفاروق وابنه عبد الله في الشدة على أهل الباطل، وهذا يحتاج إلى نوع تفصيل:
إن مدينةَ رسول الله ليست كباقي الأمصار والأقطار؛ فهي أصل الإيمان ومعدن الدين ومستقر النبوة، ويكفيك في فضلها ثلاثة أحاديث هم كالشامة على محيّاها:
الأول: ما جاء في الموطّأ (2/ 463) وغيره عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها)).
الثاني: في الموطأ (2/ 467) وغيره عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابَتَيها)).
الثالث: في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرِز الحيّة إلى جحرها)).
ودلالات الأحاديث متفقة على طهر المدينة وأهلِها وبركتِها؛ فلا ضيْر أن يُشتدّ في تأديب وتعزير المفسد فيها إلى حد القتل صوْنا لحرمتها وسعيا في مقصود الشرع، وقد قال تعالى في حق الحرَم: ?ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم? رتّب العذاب الأليم على مجرّد النية بالظلم، وكل مكان أو زمان أو حال تتضاعف فيه الحسنات كذلك تتضاعف فيه السيئات، وهذا معنى متواتر في الشريعة، ألا ترَ إلى أحدهم يعمِد إلى دار السلطان فيرمِ بها الزِّبالة كيف يُشتدّ في تأديبه وتعزيره، فكيف إن رماها داخل مسجد! وكيف إن كان ذلك المسجد قد حرمه نبي الله!!
فإن قيل: بطريقتك هذه، أنت تقصر فقه مالك على المدينة النبوية؟
¥