(وليس في القرآن لفظ إلا مقرون بما يبين به المراد؛ ومن غلط في فهم القرآن فمِن قصوره أو تقصيره؛ فإذا قال القائل: (يشرب بها) إن الباء زائدة كان مِن قِبل علمه، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: يشرب منها، لم يدل على الري، وإذا ضمن معنى الري فقيل: يشرب بها، كان دليلاً على الشرب الذي يحصل به الري؛ وهذا شرب خاص دل عليه لفظ الباء كما دل لفظ الباء في قوله (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) على إلصاق المسموح به بالعضو، ليس المراد مسح الوجه) ---إلى أن قال:
(ومن قال باجزاء البعض لأن الباء للتبعيض أو دالة على القدر المشترك فهو خطأ أخطأه على الأئمة وعلى اللغة وعلى دلالة القرآن؛ والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدراً زائداً كما في قوله (عيناً يشرب بها عباد الله) فإنه لو قيل: يشرب منها، لم تدل على الري فضمن يشرب معنى يروي فقيل يشرب بها فأفاد ذلك أنه شربٌ يحصل معه الري.
وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى بتعديته كقوله (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) وقوله (ونجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) وقوله (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) وأمثال ذلك كثير في القرآن وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف.
وكذلك المسح في الوضوء والتيمم، لو قال: (فامسحوا رؤوسكم أو وجوهكم) لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول: مسحت رأس فلان وإن لم يكن بيدك بلل، فإذا قيل: فامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم: ضمن المسح معنى الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا المسح؛ وهذا يفيد في آية التيمم أنه لا بد أن يلتصق الصعيد بالوجه واليد؛ ولهذا قال: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ----).
وقال الزمخشري في (الكشاف) (2/ 717): (فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو: لا تعل [لعلها تمل] عيناك عنهم؟ قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ؛ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؛ ونحوه قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي ولا تضموها إليها آكلين لها).
وقال أبو حيان في (البحر المحيط) (5/ 280): (والتضمين ابلغ لدلالته على معنى الفعلين)؛ وانظر الكشاف (2/ 244).
ومما ينبه عليه هنا أن الأصل عدم التضمين، ولكن يصار إليه عند الحاجة وقيام القرينة؛ قال أبو حيان في (البحر المحيط) (6/ 119): (وما ذكروه من التضمين لا ينقاس عند البصريين، وإنما يذهب إليه عند الضرورة؛ أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى).
وقال نحوه في (البحر المحيط) أيضاً (4/ 129).
وقد سرد الأستاذ البارع محمد عبد الخالق عضيمة ما ورد في القرآن من التضمين مرتباً على حروف المعجم في الأفعال وذلك في كتابه الحفيل (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) (9/ 212 - 239).
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[08 - 05 - 08, 12:35 م]ـ
(26)
ما وجه الحكمة أو البلاغة في تقديم الأخ على الأبوين في قوله تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ----)؟
قال شيخ الاسلام في (مجموع الفتاوى) (16/ 74):
(ولجماعة من الفضلاء كلام في قو له تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه): لِمَ ابتدأ بالأخ ومن عادة العرب أن يُبدأ بالأهم؟ فلما سُئلت عن هذا قلت:
إن الابتداء يكون في كل مقام بما يناسبه، فتارة يقتضي الابتداء بالأعلى، وتارة بالأدنى؛ وهنا المناسبة تقتضي الابتداء بالأدنى، لأن المقصود بيان فراره عن أقاربه مفصلاً، شيئاً بعد شيء؛ فلو ذكر الأقرب أولاً لم يكن في ذكر الأبعد فائدة طائلة، فإنه يُعلم أنه إذا فر من الأقرب فر من الأبعد، ولَمَا حصل للمستمع استشعار الشدة مفصلة؛ فابتُدئ بنفي الأبعد منتقلاً منه إلى الأقرب، فقيل أولاً: (يفر المرء من أخيه)، فعُلم أن ثم شدة توجب ذلك وقد يجوز أن يفر من غيره ويجوز أن لا يفر؛ فقيل: (وأمه وأبيه) فعلم أن الشدة أكبر من ذلك بحيث توجب الفرار من الأبوين؛ ثم قيل: (وصاحبته وبنيه) فعلم أنها طامة بحيث توجب الفرار مما لا يُفَرّ منهم إلا في غاية الشدة، وهي الزوجة والبنون؛ ولفظ "صاحبته" أحسن من "زوجته").
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[08 - 05 - 08, 03:32 م]ـ
(27)
الأسرار البيانية في الآيات الأولى من سورة غافر
(حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3})
بين جملة طيبة من هذه الأسرار العلامة الجليل المتدبر لكتاب الله تعالى الإمام ابن القيم رحمه الله، ولن أطيل بنقل كلامه، أكتفي بالإحالة على أصله وهو الكتاب البديع (بدائع الفوائد) (1/ 194) ولكن أنقل خاتمة بحثه وتدبره، وهي قوله عقب فراغه من الكلام على تلك الآيات العظيمات:
(فهذه عشرة قواعد [في] الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة ولكن خود تزف إلى ضرير مقعد فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها وهكذا سائر آيات القرآن؛ فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه؛ فالله المستعان).
¥