ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[08 - 05 - 08, 04:32 م]ـ
(28)
تدبر عجيب وعزيز لقوله تعالى
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة يونس {11}]
القرآن الكريم لم يهمل من المعاني إلا ما لا ينفع الناس أو ما لا يفهمونه أو ما يقوم غيره مقامه أو ما قل نفعه وشغل عما هو أهم منه بكثير، ولم يحذف من الألفاظ في أثناء نظمه إلا ما دل السياق عليه، ويقابل ذلك أنه لم يزد من الألفاظ إلا ما أدى معنى نافعاً وحصّل بلاغة عالية ودل على حكمة عظيمة فليس في القرآن شيء من الحشو.
ليس في القرآن كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى؛ هذا قول المحقق البارع الغواص على الفوائد محمد عبد الله دراز رحمه الله وفيما يلي بعض كلامه في مسألة (إيجاز القرآن) أو سمها مسألة (إعجاز الإيجاز)؛ قال رحمه الله في (النبأ العظيم) (ص127 - 131) ما نصه:
(قلنا إن القرآن الكريم يستثمر دائماً برفق أقلَّ ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني؛ أجل، تلك ظاهرة بارزة فيه كله؛ يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب؛ ولذلك نسميه إيجازاً كله (1)؛ لأننا نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد، ولا يميل إلى الإسراف ميلاً ما، ونرى أن مراميه في كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها؛ فليس فيه كلمة إلا هي مفتاحٌ لفائدة جليلة، وليس فيه حرفٌ إلا جاء لمعنى.
دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية: إنها (مُقحَمة) وفي بعض حروفه: إنها (زائدة) زيادة معنوية، ودع عنك قول الذي يستخف كلمة (التأكيد) فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أوْ لا حاجة له به.
أجل، دع عنك هذا وذاك؛ فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل، مستوراً أو مكشوفاً، بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن.
وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح، فإن عُمّيَ عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولاً سديداً هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف، قل: (الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه)؛ ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلاً: أين أنا من فلان وفلان؟ كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل؛ ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجيّة المشهورة (2)؟ فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علماً؛ فعسى الله أن يفتح لك باباً من الفهم تكشف به شيئاً مما عُمّيَ على غيرك؛ والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)؛ ثم ضرب مثلاً لذلك وهو قوله تعالى (ليس كمثله شيء) بينه في أكثر من أربع صفحات، وختم ذلك البيان بقوله: (أرأيت كم أفدنا من هذه الكاف وجوهاً من المعاني كلها شافٍ كاف؟ فاحفظ هذا المثال وتعرَّف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفاً حرفاً)؛ ثم قال عقب ذلك:
(وبعد، فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول بتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي – بطبيعتها اللغوية – أتم تحديداً للغرض، وأعظم اتساعاً لمعانيه المناسبة؛ لا بل إنه كثيراً ما يسلك في إيجازه سبيلاً أعز وأعجب.
فلقد تراه يعمد - بعمد حذف فضول الكلام وزوائده - إلى حذف شيء من أصوله وأركانه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها، ولقد يتناول بهذا الحذف كلمات وجملاً كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح، وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة مسلك المعنى في لفظه أن لفظة أوسع منه قليلاً (3).
¥