فإذا ما طلبتَ سرَّ ذلك رأيته قد أودع معنى تلك الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمَرَّ عليها جَنْدَرة البيان بيدٍ صَناع، فأحكم بها خلقه وسوّاه، ثم نفخ فيه من روحه (4) فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نيّرٌ مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطَيّ، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق.
لا ننكر أن العرب كانت تعرف شيئاً من الحذف في كلامهم، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها؛ فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار؛ وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي؛ ولو قال: أخي في الدار، لعدَّ ذلك منه ضرباً من اللغو والحشو؛ لكن الشأو الذي بلغه القرآن في هذا الباب - كغيره من أبواب البلاغة - ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأمانيّ والأحلام.
خذ لذلك مثلاً قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {11}) (5).
ثم راح يشرح ما فيها من الحذف والإيجاز شرحاً عجيباً مذهلاً (ص137 - 141)، فرحمه الله رحمة واسعة ما أوسع علمه وما أعمق فهمه (6).
===========================================
الهوامش
(1) وهنا كتب رحمه الله هامشاً طويلاً في نحو ثلاث صفحات في تحقيق وإيضاح هذه المسألة، فليراجعه من كان يحرص على النفيس من العلم.
(2) قرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله تعالى (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة) [الآية 24 من سورة ابراهيم 14] وقال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فخفي على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعاً من شجر البادية؛ وفهم ابن عمر أنها النخلة، وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سناً وفيهم أبو بكر وعمر، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هي النخلة؛ الحديث رواه الشيخان؛ وفي القرآن: ففهمناها سليمان. [الآية 79 من سورة الأنبياء 21].
(3) ذكر في هامش هذا الموضع تمثيلاً لتوضيح هذا المقصد، فانظره إن شئت.
(4) أنا لا أرتضي هذه التعابير وسبحان الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته وكماله؛ ولعل للمؤلف مقصداً مقبولاً ولعل لكلامه توجيهاً صحيحاً، والله يغفر لنا وله.
(5) يونس 11.
(6) ثم ضرب (ص141 - 142) مثالاً ثانياً؛ وختم ذلك المثال بل الفصل بقوله: (فمن ذا الذي يستطيع أن يجري في هذا المضمار شَرَفاً أو شَرَفين ثم لا تضطرب أنفاسُه، ولا تكبو به ركائبُ البيانِ وأفراسُه؟
اللهم إن من دون ذلك لشُقَّةً بعيدة ولسفراً غير قاصد، وإن في دون ذلك لحداً للإعجاز).
ـ[محمد العواد]ــــــــ[10 - 05 - 08, 08:41 ص]ـ
؛؛ محمد خلف سلامة؛؛
جزاك الله خيرا الجزاء، فعلا أخي فوائد قيمة وبليغة، استفدت منها استفادة عظيمة، أتمنى أن تستمر وبانتظار ما تجود به ..
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[17 - 05 - 08, 11:41 ص]ـ
جزاك الله خيراً يا أخي الفاضل.
(29)
الفرق بين قوله تعالى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) وما لو قيل: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد)
قال ابن القيم في أول كتابه (الفوائد):
(قاعدة جليلة: اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألْق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) [ق: 37]؛ وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
فقوله (إن في ذلك لذكرى) أشار إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا؛ وهذا هو المؤثر.
وقوله (لمن كان له قلب) فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً) [يس: 69 - 70] أي حي القلب.
وقوله (أو ألقى السمع) أي وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له؛ وهذا شرط التأثر بالكلام.
¥