تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأذكّر أخيراً بأن الكتاب - على علاته - حافل بالفوائد مليء بالنفائس، والله الموفق.

ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[18 - 05 - 08, 12:24 م]ـ

(30)

الترابط الدقيق بين المعاني المتجاورة في الكتاب الحكيم

قال الإمام الطبري رحمه الله (ج4 ص535) في تفسير قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة 228]:

(القول في تأويل قوله تعالى (وللرجال عليهن درجة):

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: معنى الدرجة التي جعل الله للرجال على النساء: الفضل الذي فضلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك ----.

وقال آخرون: بل تلك الدرجة الإمرة والطاعة ----.

وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق وأنها إذا قذفته حُدَّت وإذا قذفها لاعن ----.

وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها: إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه ----.

وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك ----.

{قال أبو جعفر}: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن"الدرجة" التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.

وذلك أن الله تعالى ذِكْرُه قال: (وللرجال عليهن درجة) عقيب قوله: (ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف"، فأخبر تعالى ذِكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.

ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره: (وللرجال عليهن درجة) بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: (ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها لأن الله تعالى ذكره يقول: وللرجال عليهن درجة).

ومعنى"الدرجة": الرتبة والمنزلة.

وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة).

وهنا علق العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله قائلاً:

(من حق أبي جعفر رضي الله عنه أن أقف بقارئ كتابه على مثل هذا الوضع من تفسيره، لأقول مرة أخرى: إنه كان مفسراً إماماً سبق ففات السابقين ولم يلحقه لاحق في البصر بمعاني كتاب ربه، وفي الحرص على بيان معانيه، وفي الدقة البالغة في ضبط روابط الآيات بعضها ببعض.

ومن شاء أن يعرف فضل هذا الإمام وتحققه بمعرفة أسرار هذا الكتاب فليقرأ ما كتبه المفسرون بعده في تفسير هذه الجملة من الآية، فهو واجد في المقارنة بين الكلامين ما يعينه على إدراك حقيقة مذهب أبي جعفر في التفسير، وما يدله على صدق ما قلت، من أن الرجل قد نهج للمفسرين نهجًا قل من تبعه فيه، أو أطاق أن يسير فيه على آثاره.

ولم يكتب أبو جعفر ما كتب على سبيل الموعظة كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة وأشباههم، بل كتب بالبرهان والحجة الملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة من أول آية الإيلاء-"للذين يؤلون من نسائهم"- وما تبعها من بيان طلاق المولي، وكيف يفعل الرجل المطلق وكيف تفعل المرأة المطلقة، وما أمرت به من ترك كتمان ما خلق الله في رحمها وائتمانها على هذا السر المضمر في أحشائها وما للرجال من الحق في ردهن مصلحين غير مضارين وتعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل، ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة لا ينال المرء قبلها؟؟ إلا بالعزم والتسامي وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته.

ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثّاً وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوباً لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا.

وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب، فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفاً ثم جملة جملة، غيرَ تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها؛ وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان.

وأحب أن أقول: إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العرب وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات؛ ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلِّقين وحثهم عليه وعرَّفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملَّكه طلاقها وفراقها، ولم يملّكها من ذلك مثل الذي ملّكه؛ فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم، إنك أنت السميع العليم).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير