تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن ذلك أدعى للحكم على كل المغرب عند الذين سيتصدون لذلك أيضا في مقام آخر.

أقول هذا وأكرره، وأعلنه غاية الإعلان، ثم بعد ذلك أقول: إن كون هؤلاء الثلاثة تَخرجوا من فاس لا يدل ذلك وحده على أن أدبهم فاسي مَحض، لا يضم من بذور النهضة السوسية شيئا، بل الذي يصح أن يَحكم به أنهم تذوقوا الأدب في بلادهم، ثم عمدوا إلى كليتهم وكلية كل المغاربة، لا كلية أهل عقبة باب الحمراء وحومة الطالعة وحدهم؛ ليترقوا منها وليدركوا من أساتذتِها في كل فن ما يعوزهم في باديتهم، وذلك ديدن كل من يأخذ من السوسيين من فاس، من قديم الزمان إلى اليوم، ويؤيد هذا أننا نعلم أن الذي تخرج من بلده شاديا ثُم توجه إلى مثل القرويين لا يشتغل في القرويين إلا بتتميم العلم الذي كان شدا به قبل، وحال هؤلاء الثلاثة وغيرهم من كل أدباء سوس إذ ذاك -على الأقل- لا يَخرج عن هذا، أوَليست هذه هي [65] الحقيقة الناصعة المسلمة؟ على أن المقصود الذي نريده أن ما رآه مُحمد العالِم هناك من ذيول تلك النهضة، يوجد حتى في الذي يقدمه أولئك الفقهاء من قصائدهم، وهل يعتني فقيه بالقوافي إلا إذا أكبر الأدب وأعلى شأنه، وعلم أنه مفتاح القلوب، وخير ما يقدمه ذو علم أمامه؟

وهذا الذي يقدمه هؤلاء العلماء، مع ما عند الثلاثة المتقدمين يدل بِمجموعه على ما نرمي إليه، وأما رابع أولئك الثلاثة مُحمد بن أحمد التاغاتيني ابن ذاك الشاعر الإيليغي، فإنه شاعر نشأ تَحت ظل إيليغ، وسنرى ما يتكون منه أدبه، فندرك ما هي الكتب التي تستقى منها آداب ذاك العصر، وأية طريقة يسلكونَها حتى يتمكن المتأدب في الأسلوب العربي.

أبدأ مُحمد العالِم وهذه الثلة وأعادوا بِمجرد ما اتصلت الأسلاك، فكأنَّما نشرت في تارودانت مَجالس ما بين الكرخ والرصافة، وعادت إلى حياتِها الأفكار العبادية الأندلسية تتجارى في ميدانِها، وقد شاءت السعود أن يبقى بعض ما دار إذ ذاك، فحفظ لنا كتابا كتبه () أحد الأحياء إذ ذاك في ردانة، وكان أديبا ينزل عليه أولئك الأدباء ويُخبرونه بكل ما يروج في حضرة الخليفة، وما يكون بينه وبينهم من المساجلات التي تربوا أو تَماثل على الأقل -مساجلات () الأديب ابن الطيب العلمي الفاسي مِمن يَحيون في هذا العصر أيضا، ففي كتاب الرداني مساجلة في وصف مَجلس أنس، وأخرى في حلبة من فرسان العبيد يتسابقون في الميدان، وأخرى في هجو أولئك العبيد يوم انتبذ الأدباء بعد خروجهم من حضرة الخليفة في منتزه كانوا فيه وحدهم، وهي من الْمُفَاكَهات العجيبة الَّتِي لا يَملك الإنسان معها نفسه ضحكا، وهيتدل على أريحية عظيمة نعتادها من الأدباء دائما، وقد شهد مُحمد العالِم لِهذا الأدب السوسي الذي شاهده بأنه غريب لا يوجد له قرين إذ ذاك في الْمَغْرب، وكل هذا يوجد في ذلك الكتاب الأدبي الْحلو الذي كتبه الرداني كجواب لفاسي اقترحه عليه فأملاه من عنده، فأبقى به صحيفة أدبية سوسية مذهبة، لا يوجد لَها في مَجموعها على الحق والإنصاف مثيل إذ ذاك في الْمَغْرب وقد كان جامع هذا الكتاب ذا حافظة قوية، يَحفظ كل ما يعجبه، فكان ذلك هو السبب حتى أمكن له أن يُملي من عند نفسه بعد هذا الوقت بنحو ربع قرن [66] ما أودعه في كتابه من قصائد ومقطعات، وبعض نثر، وقد حكم بأن الأديب السوسي إذ ذاك وإن كان في منتهى اللطف والأريحية، والرقة ودقة الشعور كان نزيها متدينا عفيفا، لا يطبيه الْهَوى، ولا تؤديه أريحية الأدب إلى أن يتهتك، وهذا في نظرنا نَحن كما هو في نظر كل متدين مُحافظ على المروءة مِما يدل على سُمو وشفوف مِمن اتَّصف به.

على حين أن غيرنا قد يرى في هذا غير ما نرى فيه -فاختر لنفسك () ما يَحلو- ولعل أحسن ما أمدنا به ذلك المؤلف ما أفادناه مِما يستمد منه الأدب إذ ذاك ذلاقته، وتَمكن تعاليمه في الألسنة، فقد وصف الثلاثة الأولين من تلك الثلة، بأنَّهم حفظوا كلهم المقامات الحريرية وحفظوا قصائد كثيرة للمتنبي، والبحتري، وأبي تمام، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وأبي نواس، وبشار، ومسلم، فضلا عن المعلقات، وقد استحضروا كثيرا من حَماسة أبي تَمام ومن الْحماسة المغربية مع معرفتهم للتاريخ، ثم وصف مُحمد بن أحمد الرسْموكي الذي كان مِمن نشأ تَحت ذيل الأديب الإيليغي بأنه كان فائقا على القدر، حافظا لأشعار العرب، ثم قال -ويظهر لي أنه أحفظ من الآخرين- لأن

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير