فعُلم من هذه الوجوه أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله -عليهم السلام- يتوقَّف على اجتناب جميع ما ذُكر من المفاسد وذرائعها، بحيث يرى مَن يعتدُّ بمعرفتهم وعُرفهم من المسلمين أنه لا يُعَدُّ إزراءً بهم، ولا منافياً لما يجب من تعظيم قدرهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى مَن اهتدى بهم». «مجلة المنار» (20/ 310) [بتصرف يسير].
وقد صدرت فتوى من اللجنة المختصة بالفتوى في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر في رجب عام 1374هـ في حكم تمثيل الأنبياء, ومما جاء فيها: «هل يمكن تمثيل الأنبياء؟ لندع القصص المكذوبة على أنبياء الله جانباً، ولنفترض أن التمثيل لا يتناول إلا القصص الحقّ الذي قدَّمنا شذرات منه عاجلة، ثم نتساءل:
1ـ كيف يُمَثَّل آدمُ أبو البشر وزوجُه وهما يأكلان من الشجرة؟ وما هي هذه الشجرة؟ أهي شجرة الحنطة؟ أم هي شجرة التين؟ أم هي النخلة؟
وعلى أيِّ حال نمثلهما وقد طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؟ وهل نمثِّل الله -تعالى- وقد ناداهما: ?أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ?؟! أو نترك تمثيله -تعالى- وهوركن في الرواية ركين؟! سبحانك سبحانك، نعوذ بك من سخطك ونقمتك ومن هذا الكفر المبين!
2ـ وكيف يُمَثَّل موسى وهو يناجي ربه؟ وكيف يُمَثَّل وقد وكز المصريَّ فقتله؟ بل كيف يُمَثَّل وقد أحاط به فرعون والسحرة، ورماه فرعون بأنه مهين، ولا يكاد يبين؟ وكيف تُمَثَّل العقدة التي طلب من الله أن يحلَّها من لسانه؟ وما مبلغ كفر النَّظّارة والممثلين إذا أفلتت -ولا بد أن تفلت- منهم فلتة مضحكة أو هازئة حينما يتمثلون الرسولَين وقد أخذ أحدُهما برأس الآخر وجرَّه إليه؟
وما مبلغ التبديل والتغيير لخلق الله الفطري ليطابق هذا الخلق الصناعي وقد عملت فيه أدوات الأصباغ والعلاج عملها؟
3ـ وكيف يُمَثَّل يوسف الصديق وقد همَّت به امرأة العزيز وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه؟ وما تفسير الهمِّ في لغة الفن؟
4ـ وكيف يُمَثَّل أنبياء الله وأقوامهم يرمونهم بالسِّحر تارة، وبالكهانة والجنون تارة أخرى؟ بل كيفيُمَثَّلون حينما كانوا يرعون الغنم «وما من نبي إلا رعاها»؟ بل كيف يُمَثَّلون وقد آذاهم المشركون ولم يستحِ بعضهم أن يرمي القذر والنَّجس على خاتم النبيين وهو في الصلاة والكفار يتضاحكون؟ سيقول السفهاء من النظارة -وما أكثرهم- مقالة المستهزئين الكافرين من قبل: ?أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا?؟ وسيغضب فريق لأنبياء الله ورسله فيقاتلون السفهاء، وينتقمون منهم، وتقوم المعارك الدينية لا محالة ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ?.
لسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان أن من قصص الأنبياء ما لا يستطاع تشخيصه، وأن ما يستطاع تشخيصه من قصصهم فهو تنقيص لهم، وزراية بهم، وحطٌّ من مقامهم، وانتهاك لحرماتهم وحرمات الله الذي اختارهم لرسالته, واصطفاهم لدعوته, لا ريب في ذلك كله ولا جدال.
وهذا كله في القَصص الحقِّ الذي قصَّه الله علينا ورسوله، وأما القصص الباطل -وما أكثره- فهو زور على زور، وكفر على كفر، وهو البلاء والطامة .. وما نظن أن أحداً يستطيع أن يجادل في هذه الحقائق الناصعة, وأكبر علمنا أن أول من يخضع لها ويؤمن بها هم أهل الفن أنفسهم، فإنهم أرهف حسًّا، وأشد إدراكاً لمقتضيات التمثيل وملابساته.
على أنا لو افترضنا محالاً، أو سلَّمنا جدلاً بأنَّ تمثيل الأنبياء لا نقيصة فيه ولا مهانة، فلن نستطيع بحال أن نتجاهل أنه ذريعة إلى اقتحام حمى الأنبياء وابتذالهم، وتعريضهم للسخرية والمهانة، فالنتيجة التي لا مناص منها ولا مفرَّ: أن تشخيص الأنبياء تنقيص لهم، أو ذريعة إلى هذا التنقيص لا محالة ...
إِنَّ حقًّا محتوماً علينا أن نُجِلَّ الأنبياء، وأن نُجِلَّ آل الأنبياء وأصحاب الأنبياء عن التمثيل والتشخيص، واحتراماً وإجلالاً للأنبياء أنفسهم؛ لأن حرمتَهم مستمدَّةٌ من حرمة الأنبياء، كما أن حرمة الأنبياء مستمدَّةٌ من حرمة الله -عز وجل-، وهذا بعض حقهم على الإنسانية جزاء ما صنعوا لها من جميل، وأدوا إليها من إحسان.
¥