وقال صاحب "المظاهر" (): ((كان - رضي الله عنه – رَبْعَة أميل إلى الطول، أبيض مشربا بحمرة، شديدة سواد الشعر، عظيم اللحية، تملأ صدره، ما رأيت أهيب منه ولا أحسن وجها وقدا ولا أطيب ريحا، وكان يتلثم في غالب أحواله، ولم أتجاسر قط على سؤاله عن سبب تلثمه، نعم؛ ذلك من شأنه المصطفى صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان، وممن اشتهر باللثام: سيدنا موسى الكليم، وسيدنا دحية الكلبي، والشيخ أبو يعزى، وأبو العباس البدوي، وأبو العباس الملثم ... وغيرهم من الأكابر)).
((كل من رآه أحبه، يفاجئ أعداءه وهم يشتمونه، فلا يتمالكون أن يقوموا إجلالا لوجهه، ولا يفارقونه إلا بعد تعفيرهم لحاهم في يده ورجله، فإذا فارقوه تعجبوا من أنفسهم. تشم رائحته من بعد، كل من يرى وجهه يعلم أنه ليس بوجه كذاب، ورحم الله الشريف عون الرفيق أمير مكة؛ فإنه تكلم شخص عنده في الأستاذ، فقام إليه الأمير قائلا: "يا حمار؛ أنظر إلى وجهه، لو نظرت إليه ما تكلمت فيه! ")).
((وكان الأستاذ محسودا أينما حل ونزل، محبوبا في الوجه مبغَضا في الظهر، على عادة الله مع أمثاله في الإكثار من حسادهم وأعدائهم لغير سبب، وخصوصا في مسقط رأسه وسكنه؛ لأنه ما فقد عالم حرمته إلا في بلده، ورحم الله ورقة: "لن يأتي أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي". وقد كان الشيخ أبو محمد صالح - دفين آسفي - يوصي أصحابه قائلا: "اسألوا عني قبل أن تقربوا من آسفي، فإذا وصلتم إلى بلدي؛ فاقطعوا عني السؤال! ")).
((إلا أنه كان له خلق ألطف من الهوى، وألذ من نسيم الأسحار؛ جبل على السخاء والبذل، ينفق ما وجد ولا يخشى من ذي العرش إقلالا، همته أبعد من الثريا، ما لقي وزيرا ولا سلطانا - فضلا عمن دونهما - إلا بطلب أو لرجاء نفع عمومي، همته في الذكر والتذكير والدلالة على الخير، كثير التلاوة والذكر، يقوم الليل ويعفر وجهه في التراب؛ يختار السجود عليه، يصوم الإثنين والخميس والأيام الفاضلة، يجيب عن كل ما يسأل عنه بالبديهة؛ سواء في الحديث أو التفسير، أو التصوف أو الكلام، أو البيان أو الأصول، أو الفلسفة أو علوم الحقائق والأسرار ... أو غيرها من العلوم الأصلية والفرعية)).
((لا يسمعه سائله أو المستمع يتكلم في علم إلا ويتحقق أنه لا يعرف غيره، ثم إذا عرض في السؤال الاستشهاد من علم آخر؛ ظن كذلك، فلا يقطع كلامه إلا ويقطع السامع أنه عالم الدنيا وبحر العلم الزاخر، إذا تكلم في مسألة لا يقطع كلامه فيها إلا الصلاة أو أمر لازم، وإلا؛ فكان لا ينقطع له ما يقول؛ سواء كان راكبا أو جالسا، أو قائما أو متكئا أو مضطجعا)).
((أما كلامه على أسرار الكتاب والسنة ودقائق المعارف وباهر العوارف وعلل النفوس وقواعد السلوك؛ فقد أملى من تلك الرقائق والحقائق ما استنارت به عقول سليمة، وتداولت من جراحات غفلاتها قلوب أليمة، وازدحم الخاص والعام على الاستفادة من تلك العلوم، والاقتباس من نور مشكاة تلك الفهوم)).
جمع العلم في القرآن ولكن تقاصرت عنه أفهام الرجال
((وتلقي كل أحد من تلك اللطائف على قدر الاستعداد، وعلى ما قدره الله له من سوق فيض الإمداد)).
على قدرك الصهباء تعطيك نشوة ولست على قدر السُلاف تصاب ()
إلى قوله: ((كما أنه كان يجلس للتذكير والكلام على السلوك وعلل النفوس كل يوم جمعة بعد العصر، فترى البحار منهمرة، والسيول متلاطمة الأمواج، حتى لا تدري من أين تسمع، إذ لا ترى إلا أنبوبا من النور خارجا من صدره، لست ترى تلك الحالة من غيره، ولا ترى وصفها في ترجمة أحد من السابقين، يستحضر آي القرآن وقت المذاكرة والإملاء للاستشهاد، حتى يقطع السامع أنه يلقن تلك الآيات. وإلا؛ فالحافظة لا توحي إليه الآيات المتفرقة. يحفظ السنة، ويستحضر أحاديث الكتب الستة، و"الترغيب والترهيب" ()، و"كنز العمال" () كأنه يحفظها. وما رأيت في المغرب والمشرق من يستحضر الأحاديث بألفاظها سواه، رأيته مرارا يذاكر بعض من ختم الصحيح كم مرة؛ فيجد نفسه بين يديه كأنه لم يقرأ البخاري قط. يحسب في استحضار نصوص الكتاب والسنة كشيخ الإسلام البخاري ()، أو ابن المديني ()، وانتهى إليه العلم بمعرفة أسرارهما والجمع بين مشكلهما على طريقة كبار العارفين، الفلاسفة المشرعين، بحيث ينشدك لسان حاله قول سيدي محمد البكري () رضي الله عنه:
¥