وإذا كان منهج الثعالبي منهجا تحقيقيا في أساسه وطابعه العام فإنه لم يخل من جانب صوفي واضح إذ كان هو نفسه صوفيا سنيا لا يذهب مذهب الحلول والغوص في مذهب وحدة الوجود ()، وهو ينقل في تفسيره نصوصا عن القشيري والمحاسبي من رعايته ومن مختصرها للعز بن عبد السلام ومن كتاب سنن الصالحين لأبي الوليد الباجي ومن التنوير لابن عطاء الله السكندري وعن صاحب التشوف المغربي وعن أبي القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي الصوفي وعن أبي مدين البجائي التلسماني وعن أبي الحسن الشاذلي وغيرهم. ()
ومفهوم الولي عنده مفهوم قرآني قال في تفسير قوله تعالى: ?ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون? (): وأولياء الله هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى الله فهو داخل في أولياء الله وهذا هو الذي تقتضي الشريعة في الولي. ()
وقد انتقد ظاهرة التصنع والرياء لدى بعض المتصوفة المرائين المتصنعين فقال عند تفسير قوله تعالى ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين? ():
وهذا كله تغليظ على المرائين والمتصنعين ولا خلاف أعلمه بين أرباب القلوب وأئمة التصوف أن المتصنع عندهم بهذه الأمور ممقوت وأما من غلبه الحال لضعفه وقوي الوارد عليه حتى أذهبه عن حسه فهو إن شاء الله من السادة الأخيار يطول تعدادهم كابن وهب، وأحمد بن معتب المالكيين ذكرهما عياض في مداركه وأنهما ماتا من ذلك، وكذلك مالك بن دينار مات من ذلك ذكره عبد الحق في العاقبة ومن كلام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في قواعده الصغرى قال: وقد يصيح بعضهم لغلبة الحال عليه، وإلجائها إياه إلى الصياح، وهو في هذا معذور، ومن صاح لغير ذلك فمتصنع ليس من القوم في شيء، وكذلك من أظهر شيئا من الأحوال رياء أو تسميعا فإنه ملحق بالفجار دون الأبرار. ()
ونعلق على ماذكره هنا بأن أولى الناس بالخشوع النبي ? ثم صحابته الكرام وعلماء الأمة الصدور من التابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة ومن في منزلتهم ولم يصدر ذلك عن أحد منهم مما يدلل على كون ذلك مدخلا من مداخل الشيطان وتلبيسا من تلبيساته كما أفاض في ذكر جمل من ذلك ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وأفرده الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل في رسالة مستقلة.
ومن صوفياته قوله تحت قوله تعالى ? الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض? () وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل إصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرًا حتى طلع الفجر، فقال له: ماهذا ياأبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت إصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله سبحانه ? إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم? () فتفكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
ونقل عن ابن عطية قوله: وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتًا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل، فاستقبل القبلة فصلى مع الناس فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دنوت منه سمعته وهو ينشد:
منسحق الجسم غائب حاضر منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط كذاك من كان عارفًا ذاكرا
يبيت في ليله أخا فكر فهو مدى الليل نائم ساهر
قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه. ()
وهذا أيضا الذي ذكره لا محل له من أهل الصدر الأول وهم أخشى الناس وأتقاهم، وقد حرم المسكين من قيام الليل ومناجاة الخالق سبحانه وتعالى والاقتراب منه في السجود، والتفكر في آيات الله وهو بين يدي الله، ليس وهو نائم أو سارح! غفر الله لنا تقصيرنا.
ثالثا: موقفه من تفسير القرآن بالقرآن:
من الأمثلة على انتهاجه منهج تفسير القرآن بالقرآن في بعض المواضع ماذكره في قوله تعالى ?ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ? () قال: ()
أي نؤت من شئنا منها ماقدر له يبين ذلك قوله تعالى ?من كان يريد العاجلة ... ? ()
¥