قال أبو عبد الرحمن: حقي عليك ألا يغرب عنك شيء من هذه الحقائق ليسهل عليك فيما بعد ذلك الإيمان بهذه الكلمة ((لأبي محمد بن حزم)) قال - رحمه الله -: ((والعقل مميز بين صفات الأشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها.
أما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللاً موجبة لأفاعيل الخالق، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل.
وهؤلاء استدركوا بعقولهم على خالقهم عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم ((بزعمهم)) فثقفوها ورتبوها، والعقل لا يوجب أ، يكون الخنزير حراماً، والتيس حلالاً)).
قال أبو عبد الرحمن: العقل لا يوجب ذلك، فيكون شرعاً بغير خبر.
وقد يوجب أموراً لا شرع فيها، كأمور الحياة من طب، ورياضيات، فتكون معقولات بغير الشرع. فلا تظن أن اكتفاء شيخنا بالظاهر يعني إلغاء العقل - كما يتسرع المتخرصون غير المحققين من المذهبيين -
فأبو محمد أشد إيماناً بالعقل حيث يجب الإيمان به، وهو أمرن على استخدامه، ولكن الرجل منطقي، دقيق الملاحظة يدرك الفروق الدقيقة بين الجزئيات.
فاكتفاؤه بالظاهر لا يعني أن ما عدا الظاهر لا مفعول له، ولكنه يضع الأمور مواضعها على هذا النحو:
1 - المراد بالظاهر: ظاهر الشرع، فالاكتفاء به يعني الاكتفاء بما يسمى شرعاً. ورد ما سواه يعني المنع من تسميته شرعاً.
2 - نكتفي بالظاهر الشرعي ((في رد ما يعارضه مما يظن أنه أولى منه من المعقولات بغير شرع))؛ لأن المعقول بالشرع بعض المعقولات، فلا يمكن أن ينفي معقوليته معقول آخر.
3 - للمعرفة البشرية مصادر غير ظاهر الشرع، ولكل مصدر وظيفته، ولكننا نماري في تسمية المعقول من هذه المصادر شرعياً؛ لأنه غير وارد بظاهر الشرع.
وقصارى القول إن الاكتفاء بالظاهر نتيجة للأخذ بالظاهر، وهو نتيجة حتمية لتمييز الشرعي من غيره، فالشرعي ما نطق به الشرع، وهو الظاهر، فكان ما لم ينطق به حتماً غير شرعي، وفصل القول في الجواب الشافي لهذا السؤال الملح: أيمكن فهم ((مراد الله)) من غير قوله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يسميه ابن حزم ظاهراً؟
قال أبو عبد الرحمن: الواقع أننا لا نفهم مراد الله من غير منطوق قوله بلغة العرب التي خاطبنا بها سبحانه وتعالى، ولهذا لزم الاكتفاء بالمنطوق، وما عداه من الأصول التي يتوسل بها أصحاب المعاني إلى مراد الله فمردودة؛ لأنها دلالة بغير اللغة، إلا أن تكون مما أوجبه الظاهر.
وفي دلالة غير اللغة من المزالق والمخاطر ما يلي: