تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[العربية بين عالمين]

ـ[فتحي قاسم]ــــــــ[26 - 03 - 2007, 02:11 م]ـ

العربية بين عالمي الغيب والشهادة

خمسة وسبعون عاما مضت على إنشاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة خبر مر على الكثيرين مرور الوجه الغريب في شارع مزدحم في مدينة عصرية لا يلفت إنتباه أحد ولا يعني شيئا للآخرين الذين يمرون في نفس الشارع إذ ليس سوى وجه يمر وما إن يختفي عن العين حتى يختفي عن الذاكرة كذلك ولكنه مع هذا المرور الهين اللين يثير في النفس الكثير من الأحاسيس والمعاني التي تتفاوت في تعددها وعمقها وشدتها بتفاوت درجات الوعي والإحساس بالعروبة ومعانيها في النفوس وانظر إلى إي حد تبخرت معاني هذا الإحساس من النفوس في زمن تغلبت فيه الفردية والسطحية وتضاءل الإحساس بالهوية التي هي في حقيقتها تعبير عن الإحساس بالكيان الجمعي العام.

خمسة وسبعون عاما تمثل عمقا زمنيا كاف للإحساس ببعد الزمن وطول مساره حتى إنك لو دفعت ذهنك إلى تخيل صورة المبنى الذي يقوم فيه هذا المجمع سيقدم لك صورة لمبنى يختلف عن الصور المألوفة لمباني زمننا هذا مما يدعم الإحساس بالقدم ولو طلبت منه كذلك أن يتخيل صور ووجوه العاملين فيه فإنه بلا شك سيعطيك صورا لوجوه عليها لمحات من الغرابة وما لا تألفه في وجوه من يحيط بك من الأقارب والمعارف على أن هذا البعد الذي هو عمر هذه المؤسسة ليس بشيء لو قورن ببعد آخر هو عمر هذه اللغة ذاتها أعني اللغة العربية التي حافظت على مرور أجيال وأجيال طويلة على وحدتها الذاتية حتى إنه لك أن تتخيل أن هذا المبنى الذي تخيلته آنفا محلا تتلامح فيه وجوه مثل إمرؤ القيس وعنترة العبسي وزهير وحسان بن ثابت وجرير والمتنبي والجاحظ وأحمد شوقي وابن زيدون والخليل بن أحمد والرافعي والجواهري وناصر الدين الأسد والشابي بل لك أن تتخيل ان لهذا المبنى ساحة كبيرة تضم بطريقة ما مدنا مثل البصرة والكوفة وبغداد ودمشق وحلب وفاس والقيروان وطرابلس والدوحة وصنعاء مدنا تتداخل شوارعها وتتلاحم ساحاتها وتتزاحم فيها قوافل الإبل مع قوافل السيارات على اختلاف أنواعها وأزمنة صنعها ويتلاقى فيها البدوي مع الشيخ المعمم مع الأستاذ الجامعي والراعي مع الفلاح و العامل والصانع ثم لك أن تتخيل بعد ذلك جدران هذا المبنى تعلوها سور القرآن الكريم سورة سورة وآية آية تتلوها أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي آوتي مجامع الكلم تتلوها المعلقات والقصائد والخطب مما علق بجدران ذاكرتك ومما لم تقرأه لك عين أو تسمعه منك أذن.

على أني أنتهز هذه الفرصة وأستأذنك لأتسلل إلى ذهنك دافعا إياه إلى تخطي هذه الصور التي تخيلتها إلى مديات أبعد قد لا تكون خطرت لك ببال لافتا عين بصيرتك إلى مدى شاسع لا حد لإتساعه وحسبك أنه ما نصطلح على تسميته بعالم الغيب فإن المعاني التي تثيرها اللغة العربية في الذهن لا تكتمل دون ولوج هذا العالم اللا محدود وهنا يكون عليك ان تضيف إلى الصور السابقة صور آولئك الذين أنعم عليهم ربهم عز وجل بواسع رحمته فأدخلهم جنته فتتخيلهم متكئين فيها على فرش يعجز عقلك عن تصورها فضلا عن تصور القصور التي طرحت فيها فضلا عن الجنان التي أقيمت فيها هذه القصور ولك أن تتخيل آولئك المتكئين في جنات النعيم من السابقين وأصحاب اليمين وهم يتبادلون الحديث بلسان عربي فصيح والملائكة حسان الوجوه تمر عليهم مسلمة عليهم بلسان عربي مبين هو لسان من عالم الغيب توافق واتفق مع لسان من عالم الشهادة.

غير أني لست أرغب في أن أقف بك عند هذه الصورة من عالم الغيب إلا قليلا لأرتحل معك بعدها إلى معنى آخر نستشرفه في ذلك العالم وأراه من أجل المعاني التي تزين حقيقة هذه اللغة التي يحتفل بذكرى تأسيس مجمعها على هذه البسيطة وأحرفها تسطع هنالك في السماوات العلا.

وأبدأ معك في تلمس هذا المعنى العميق والرقيق والجميل في آن بإمرار النظر على هذه الأحرف القرآنية التي أفتتحت بها بعض السور من مثل الم والمص وحم وغيرها من الأحرف التي مع كونها أحرف مقطعة اندمجت في سياق لغوي تكون من جمل ركبتها كلمات هذه الأحرف التي طال الكلام في أسرارها ومعانيها على معان لو قلبتها لوجدتها تقف دون المعنى الذي أريد أن أبوح لك به في هذه الأسطر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير