ولذا كان مبدأ العلة أو السببية من أكبر القضايا الفلسفية التي شغلت المفكرين وفلاسفة التاريخ والاجتماع، والعلة هي حادث يؤدي إلى حادث آخر أو مجموعة من الحوادث تتراكم في شبكة واحدة ذات اتجاه معين حتى تؤلف عاملاً قد يكون له دور في تغيير وجه من أوجه الحياة أو تغيير مسار التاريخ كله.
والثابت تاريخياً انه ما انتصرت أمة أو انهزمت إلا بفعل العوامل والأسباب الداخلية. وما العوامل الخارجية إلا متممة ومكملة للداخلية، ولعل هذا ما كان يطلق عليه مالك ابن نبي ـ رحمه الله ـ القابيلة للاستعمار، ويرى أنه العامل الأكبر في هزيمة المسلمين في العصر الحديث.
وإن كان كثير من المؤرخين والمفكرين يميلون إلى الاهتمام بدور الأسباب المباشرة والعوامل الخارجية الظاهرة في دراسة الأحداث التاريخية والتبدلات الاجتماعية والسياسية والتقلبات الحضارية.
ومن سنة الله في البشر أن كل ما يصيبهم من بلاء وأذى في الأنفس والأبدان وشئون الملك والسلطان إنما هي آثار للأعمال ونتائج للسلوك الفاسد، مع وجود عفو الله الكثير كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
ولذا نجد القرآن لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ولم يترك الله ذرة من أعمال الإنسان إلا وسجلها يوم القيامة: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً).
وتبقى سنة الله ثابتة تعمل عملها في حركة التاريخ، والله يتخذ من الظالمين والمترفين وأهل الشرك والضلال وغيرهم من كل ذوى الفساد والانحراف أدوات ووسائل يسوق بها القرى والدول والحضارات والأمم والمجتمعات نحو الفواجع والمصائر الكالحة.
والقرآن الكريم يطرح على الإنسانية قضية السقوط الحضاري من أوسع الأبواب وأكثرها شمولاً، بصيغ عديدة واصطلاحات كثيرة كلها تؤدي إلى حالة واحدة بالأمة وهي الهلاك والسقوط.
فالظلم مثلا عامل من أكبر عوامل سقوط الحضارات وله مفهوم شامل وعريض يؤدي إلى فقد التوازن في كافة مجالات الحياة، وعلاقات الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق حالات وظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية كافة، كما قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين، فأقم وجهك للدين من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون).
"ظهر الفساد في البر والبحر" نحو القحط والجدب، وقلة البركة في الزراعة والتجارة، وكثر الحرائق والغرق،" بما كسبت أيدى الناس" أي بسبب معاصيهم وذنوبهم، وأن الله أفسد بعض أسباب دنياهم ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة والحكمة "لعلهم يرجعون" بمعنى لكي يرجعون عما هم عليه وحتى ينجو من عذاب الآخرة، وهو العذاب الأكبر، ثم أمر الله الأمم أن تسير في الأرض وتنظر لترى كيف أهلك الله إمما كانت على الظلم وأذاقها سوء العاقبة بمعاصيهم. ودل قوله تعالى (كان أكثرهم مشركين) على أن الشرك لم يكن هو السبب الوحيد لتدمير القرى والأمم بل هو سبب إلى جانب أسباب أخرى.
وتكشف الآيات عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية عامة، بأعمال الناس وسعيهم، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم، وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملأها براً وبحراً به، فظهور الفساد في البلاد واستفحال شره لا يتم عبثاً، ولا يقع صدفة، وإنما يكون وفق سنة جارية وحكمة مدبرة، وهي (ليذيقهم بعض الذي عملوا) من الشر والفساد والمنكر والباطل والظلم، وما إلى ذلك، والله يذيقهم بعض أعمالهم وليس كل أعمالهم ذلك لأنه رحمن رحيم يعفو عن كثير، وها هم أهل القرى الظالمة والحضارات الفاسدة يكتوون بنار أعمالهم وتصرفاتهم ويتألمون لما يصيبهم، بما فكرت عقولهم وصنعت أيديهم و "لعلهم يرجعون" لكي يرجعوا الى الله بالعمل الصالح والتوبة، ويعزموا على مقاومة الفساد والظلم، وفي هذا تحذير لمن جاء من الأمم من بعد، وهي تعرف عاقبة السابقين وترى آثارهم وتمر بها، وفي العاقبة وآثار الباقين من الهالكين عبر وعظات تستخلص منها
¥