ولقد جمع الحكم من الكتب ما لا يحد كثرة ولا يوصف نفاسة، وصلت على وقته أربعمائة ألف مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر. ولقد بلغ عدد فهارس مكتبة الحكم فقط في أسماء دواوين الشعر (44) فهرسا، بكل فهرسة عشرون ورقة. واهتم الحكم المستنصر بهذه الكتب عناية كبرى، فجمع في قصره حذاق النساخين، والمهرة في الضبط، والمجيدين في التجليد صيانة لكتبه.
ولكن هذه المكتبة العظمى التي جهد الحكم في تكوينها لم تلبث أن بددت عند حصار البربر لقرطبة في عام 400هـ / 1010 م فبيع أكثرها على يدي الحاجب واضح العامري، ونهب ما بقي منها على أثر دخول البربر مدينة قرطبة عنوة في عام 403هـ / 1013 م. وكان المنصور محمد ابن أبي عامر -رغم حبه للفلسفة- قد جرد مكتبة القصر من كتب الفلسفة والفلك وغيرها من الكتب، وأحرقها بيده أمام نفر من علماء قرطبة البارزين كالأصيلي وابن ذكوان والزبيدي، ليظهر للناس غيرته على الدين.
فالأمير عبد الرحمن الأوسط بعث عباس بن ناصح الجزيري إلى المشرق ليبحث له عن الكتب القديمة النادرة، فأتى له بكتاب السندهند وغيره. ويعتبر عبد الرحمن الأوسط أول من أدخل هذه الكتب الأندلس، وعرف أهلها بها ونظر هو فيها.
والحكم المستنصر بعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني ودفع إليه فيه ألف دينار، فأرسل إليه أبو الفرج نسخة مكتوبة من هذا الكتاب قبل أن يظهر في بغداد. كذلك ألف له كتابا يتضمن أنساب قومه بني أمية، وقد فعل المستنصر ذلك أيضا مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، ومع محمد بن القاسم بن شعبان بمصر، ومحمد بن يوسف الوراق الذي صنف له كتابا ضخما في مسالك إفريقية وممالكها، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج. وكان يعين هؤلاء الكتاب بالمال على كتابة مصنفاتهم، كما كان لا يتردد في مساعدتهم عن طريق إعارتهم ما كانوا يحتاجون إليه من مصادر، فقد أرسل إلى الكاتب المصري أبي سعيد عبد الرحمن بن يونس صاحب كتاب " تاريخ مصر والمغرب" كتابا استعان به هذا المؤرخ في تصنيف كتابه المذكور، في القسم الخاص بالأندلس.
وإذا كان المنصور محمد ابن أبي عامر قد ضحى بكتب الفلسفة والفلك لاسترضاء فقهاء قرطبة وتدعيم مكانته في قلوب عامتها المنغلبين على ذوي السلطان، وكف يد المشتغلين بالفلسفة والاعتزال، أسوة بما فعله الناصر قبله عندما أحرق كتب ابن مسرة القرطبي خارج باب جامع قرطبة لتضمنها إشارات غامضة مشبوهة عن منازل الملحدين، فإنه نهض بالشعر نهضة كبيرة واحتضن الشعراء والأدباء، وجعل لهم ديوانا رتبهم فيه إلى طبقات، وقدرت جوائزهم على قدر مراتبهم. وفي عهده ظهرت شخصيات أدبية شرقية وأندلسية مثل صاعد البغدادي والشاعر الرمادي الأندلسي والأديب الفيلسوف أبو المغيرة بن حزم وابن زمنين.
ومن المصادر أيضا الهبات وا لهدايا فكان المؤلفون يرسلون كتبهم للمسئولين التي لا توجد عندهم، وكان العلماء يعطون الكتب لمن يطلبها على سبيل الهبة حتى ولو كان المطلوب مخطوطا أصليا نادرا، فضلا عن ذلك كانت تأتى كتب أجنبية من البلدان الأخرى هدية إلى حكام المسلمين، ومن المصادر أيضا الوقف وكان يمثل مصدرا في إثراء المكتبة بالمجموعات القيمة من الكتب، حيث كان الحكام والمحكومون شديدي الرغبة في وقف الكتب على مختلف معاهد التعليم وإنشاء المكتبات بها حتى ينالوا الأجر والثواب من الله على ذلك وإفادة طلاب العلم من جهة أخرى.
وكان تنظيم المكتبة من الداخل يعتمد على الفهارس الموضوعية، وقد بلغت هذه الفهارس التي فيها تسمية الكتب وأسماء المؤلفين نحو أربعة وأربعين فهرسا لكل موضوع، وفى كل فهرس عشرون ورقة.
مركز البحث والتأليف:
وهو يشمل فئات من الباحثين والمؤلفين كل على حسب تخصصه فكان فيها من العلماء المتخصصين في مختلف فروع المعرفة، وكان يتم تكليف بعض علماء الأندلس للتأليف في تخصصات معينة ومن أمثلة ذلك تكليف محمد بن الحارث الخشني لتأليف بعض الكتب للمكتبة منها كتاب تاريخ قضاة قرطبة، وكتاب فضائل الإمام مالك، وغيرها كثير.
مركز النقل والترجمة: كان مركز النقل والترجمة يزود المكتبة بالمصنفات في الحضارة الأجنبية والفكر العالمي، ومن ثم اهتم القسم بترجمة أمهات الكتب من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وقد عمل في قسم الترجمة نخبة ممتازة من المترجمين الذين يجيدون اللغات الأجنبية خاصة اليونانية واللاتينية منهم عبد الله الصقلي ومحمد النباتي ومحمد بن سعيد وعبد الرحمن بن إسحاق بن الهيثم وغيرهم، وكان أكثر العلوم التي ترجمت في المجالات العلمية كالطب والهندسة والفلك.
مركز التدقيق والمراجعة:
كانت مهمة هذا القسم مراجعة الكتب وتصحيحها وتهذيبها سواء المؤلفة أو المترجمة حتى تصبح خالية من النقص العلمي أو العيب المادي، وكان يعمل في هذا القسم نخبة من العلماء المعروفين والمشهود لهم بغزارة علمهم وتميزهم في كل تخصص ومن خيرة هؤلاء العلماء الرياض محمد بن يحيى بن عبد السلام الأزدي، وأبو محمد ابن أبي الحسن الفهري القرطبي، ومحمد بن معمر الجياني.
إدارة المكتبة:
شملت المكتبة فئات من العاملين منهم فئة المؤلفين وفئة المترجمين، وفئة منتجي الكتب وتشمل النساخين ومن في حكمهم كالمراجعين والمجلدين والمزخرفين، وفئة المتخصصين في شئون المكتبات كالقائمين بالأعمال الفنية والخدمات المكتبية، بالإضافة إلى فئة العمال والسعاة الذين يقومون بعملات الأمن والحراسة وتنظيم الفراش وأثاث المكتبة.
وكان الأفراد في كل فئة يعملون تحت إشراف مسئول يتولى شئون العمل من حيث توزيعه عليهم وتجهيز مستلزماته، وكان يشرف على هؤلاء جميعا من الناحية العلمية والإدارية "خازن" كانت وظيفته تماثل وظيفة رئيس المكتبة أو مدير المكتبة، وكان يتولى وظيفة الخازن أحد أساطين العلماء أو أحد مشاهير الأدباء بحيث يسمح عمله وتتيح ثقافته وخبرته القيام بهذه المسئوليات الجسام على أكمل صورة.
للأمانة العلمية نقل من موقع التاريخ الإسلامي ... الرواد
¥