كان سؤالك جارحاً، ولكني أعذرك، لقد رأيتني على حقيقة أمري، ركبت الطائرة بحجابي، وعندما أقلعت خلعت عني الحجاب، كنت مقتنعة بما صنعت، أو هكذا خُيِّل إليَّ أني مقتنعة، بينما هذا الذي صنعته يدلُّ حقاً على الانهزامية والازدواجية، إني أشكرك بالرغم من أنك قد ضايقتني كثيراً، ولكنك أرشدتني، إني أتوب إلى الله وأستغفره. ولكن أريد أن أستشيرك.
قلت وأنا في روضةٍ من السرور بما أسمع من حديثها: ((نعم ... تفضلي إني مصغ ٍ إليك)) .. قالت: زوجي، أخاف من زوجي. قلت: لماذا تخافين منه، وأين زوجك؟ قالت: سوف يستقبلني في المطار، وسوف يراني بعباءتي وحجابي .. قلت لها: وهذا شيء سيسعده ... قالت: كلا، لقد كانت آخر وصية له في مكالمته الهاتفية بالأمس: إياك أن تنزلي إلى المطار بعباءتك لا تحرجيني أمام الناس، إنه سيغضب بلا شك.
قلت لها: إذا أرضيت الله فلا عليك أن يغضب زوجُك، و بإمكانك أن تناقشيه هادئة فلعلَّه يستجيب، إني أوصيك أن تعتني به عناية الذي يحب له النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة. وساد الصمت .... وشردت بذهني في صورة خيالية إلى ذلك الزوج يوصي زوجته بخلع حجابها ... أ هذا صحيح؟! أيوجد رجل مسلم غيور كريم يفعل هذا؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، إن مدنية هذا العصر تختلس أبناء المسلمين واحداً تلو الآخر، ونحن عنهم غافلون، بل، نحن عن أنفسنا غافلون.
وصلت الطائرة إلى ذلك المطار البعيد، وانتهت مراسم هذه الرحلة الحافلة بالحوار الساخن بيني وبين جارة المقعد، ولم أرها حين استقبلها زوجها، بل إن صورتها وصوتها قد غاصا بعد ذلك في عالم النسيان، كما يغوص سواها من آلاف الأشخاص والمواقف التي تمر بنا كلَّ يوم ...
كنت جالساً على مكتبي أقرأ كتاباً بعنوان ((المرأة العربية وذكورية الأصالة)) لكاتبته المسمَّاة ((منى غصوب)) وأعجبُ لهذا الخلط، والسفسطة، والعبث الفكري واللغوي الذي يتضمَّنه هذا الكتاب الصغير، وأصابني - ساعتها - شعور عميق بالحزن والأسى على واقع هذه الأمة المؤلم، وفي تلك اللحظة الكالحة جاءني أحدهم برسالة وتسلَّمتها منه بشغف، لعلَّي كنت أودُّ - في تلك اللحظة - أن أهرب من الألم الذي أشعله في قلبي ذلك الكتاب المشؤوم الذي تريد صاحبته أن تجرد المرأة من أنوثتها تماماً، وعندما فتحت الرسالة نظرت إلى اسم المرسل، فقرأت: ((المرسلة أختك في الله أم محمد الداعية لك بالخير)). أم محمد؟ من تكون هذه؟!
وقرأت الرسالة، وكانت المفاجأة بالنسبة إليَّ، إنها تلك الفتاة التي دار الحوار بيني وبينها في الطائرة، والتي غاصت قصتها في عالم النسيان! إن أهم عبارة قرأتها في الرسالة هي قولها: ((لعلَّك تذكر تلك الفتاة التي جاورتك في مقعد الطائرة ذات يوم، إِني أبشِّرك؛ لقد عرفت طريقي إلى الخير، وأبشرك أن زوجي قد تأثر بموقفي فهداه الله، وتاب من كثير من المعاصي التي كان يقع فيها، وأقول لك، ما أروع الالتزام الواعي القائم على الفهم الصحيح لديننا العظيم، --لقد قرأت قصيدتك)) ضدَّان يا أختاه ((وفهمت ما تريد))!
لا أستطيع أن أصور الآن مدى الفرحة التي حملتني على جناحيها الخافقين حينما قرأت هذه الرسالة .... ما أعظمها من بشرى ..... حينما، ألقيت بذلك الكتاب المتهافت الذي كنت أقرؤه ((المرأة العربية وذكورية الأصالة))، ألقيت به وأنا أردد قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بَأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} .....
ثم أمسكت بالقلم ... وكتَبْتُ رسالةََ ً إلى ((أم محمد)) عبَّرْتُ فيها عن فرحتي برسالتها، وبما حملته من البشرى، وضمَّنتها أبياتاً من القصيدة التي أشارت إليها في رسالتها، منها:
ضدان يا أختاه ما اجتمعا ... دين الهدى والفسق والصَّدُّ والله ما أزرى بأمتنا ... إلا ازدواج ما له حَدُّ
وعندما هممت بإرسال رسالتي، تبيَّن لي أنها لم تكتب عنوانها البريديَّ، فطويتها بين أوراقي لعلّها تصل إليها ذات يوم.
المصدر كتاب لا تغضب .. مناقشات هادئة للدكتور عبدالرحمن بن صالح العشماوي
القصيدة:
هذي العيونُ، وذلك القَدُّ والشيحُ والريحان والنَّدُّ هذي المفاتنُ في تناسُقها ذكرى تلوح، وعِبْرَةٌ تبدو سبحانَ من أعطَى أرى جسداً إغراؤه للنفس يحتدُّ عينانِ مارَنَتا إلى رجل إلا رأيتَ قُواه تَنْهَدُّ من أين أنتِ، أأنجبتْك رُبا خُضرٌ، فأنتِ الزَّهر والوردُ؟ من أينَ أنتِ، فإنَّ بي شغفاً وإليك نفسي - لهفةً - تعدو قالتْ، وفي أجفانها كَحَلٌ يُغْري وفي كلماتها جِدُّ: عربيةٌ، حرِّيَّتي جعلتْ مني فتاةً مالها نِدُّ أغشى بقاعَ الأرض ما سَنَحَتْ لي فرصةٌ، بالنفس أعتدُّ عربيّةٌ، فسألتُ: مسلمةٌ قالتْ نعم، ولخالقي الحمدُ فسألْتُها، والنفسُ حائرةٌ والنارُ في قلبي لها وَقْدُ: من أينَ هذا الزِّيُّ ما عرفَتْ أرضُ الحجاز، ولا رأتْ نجدُ هذا التبذُّلُ، يا محدِّثتي سهْمٌ من الإلحادِ مرتدُّ فتنمَّرتْ ثم انثنتْ صَلَفاً ولسانُها لِسِبَابِها عَبْدُ قالت أنا بالنَّفسِ واثقة حرِّيتي دون الهوى سَدُّ فأجبتُها والحزن يعصفُ بي خشى بأنْ يتناثر العقدُ ضدَّان يا أختاه ما اجتمعا دينُ الهدى والفسقُ والصَّدُّ والله ما أَزْرَى بأمَّتنَا إلا ازدواجٌ ما لَهُ حدُّ