حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله جل وعلا الصليبين ... فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه .. إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه .. فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ابعثوا إلي عمي أبا قدامة .. فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام .. وإذا الرماح قد تسابقت إليه، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان، وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء.
قال أبو قدامة: فأقبلت إليه، وانطرحت بين يديه، وصرخت: ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبو قدامة ..
فقال: الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك، فاسمع وصيتي قال أبو قدامة: فبكيت والله على محاسنه وجماله، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع الآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه فقال: تمسح الدم عن وجهي بثوبك!! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة: فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال: يا عم، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة، .. ثم قال: يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم: إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر:
يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات .. وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليك ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال: يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها .. ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات، ثم مات.
قال أبو قدامة: فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأين تسكن .. فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابهم وعليه أثر السفر إلا سألته ياعمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي؟ .. فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي .. وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكرر معها نفس الرد .. فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع ..
فلما رأيت حالها أقبلت عليها .. فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت قال من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟ قالت في الداخل ودخلت تناديها .. فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟
فقلت كيف أكون معزيًا ومبشرًا؟
فقالت إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا.
وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه ..
فقلت لها بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر .. فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذ بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟
فقالت الله أكبر وفرحت .. أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبها على وجهها .. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها .. ووالله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها .. وما غادرتها إلا ميتة ..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول:
اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك اللهم أسالك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك .. .....
انتهت القصة
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل لكي تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها، وقدم ولدُها نفسَه رخيصةً لله، وتناسى لذاتِه وشبابه، فليت شعري ماذا قدم للجنة المفرطون أمثالُنا؟!
رحم الله فتى هذب الدين شبابه
ومضى يزجي إلى العلياء في عزم ركابه
مخبتاً لله صير الزاد كتابه
وارداً من منهل الهادي ومن نبع الصحابة
إن طلبت الجود منه فهو دوماً كالسحابة
أو نشدت العزم فيه فهو ضرغام بغابة
جاذبته النفس للشر فلم يبد استجابة
متقٍ لله تعلو من يلاقيه المهابة
رقّ منه القلب لكن زاد في الدين صلابة
بلسم للأرض يمحو عن محياها الكآبة
ثابت الخطو فلم تُطف الأعاصير شهابه
جرّبته صولة الدهر فألفت ذا نجابة
إن يقم يوماً خطيباً يُسمعُ الصمَّ خطابَه
أو يسر في الدرب يوماً أبصر الأعمى جنابه
مسلم يكفيه فخراً أن للدين انتسابه
(من شريط المشتاقون الى الجنه للشيخ محمد العريفي)
¥