1_ كان سليم ببغداد في حال طلبه العلم تَرِدُ عليه كتب من الري، فلا يقرأ شيئاً منها، ولا ينظر فيها، ويجمعها عنده، إلى أن فرغ من تحصيل ما أراد، ثم فتحها فوجد في بعضها ماتت أمك، وفي بعضها ما يضيق له صدره، فقال: لو كنت قرأتها قطعتني عن تحصيل ما أردت. مختصر تاريخ دمشق (3/ 413)
2_ حدَّث عنه أبو الفرج الإسفراييني: أنه نزل يوماً إلى داره ورجع فقال: قرأت جزءاً في طريقي.
3_ وحدَّث المؤمل بن الحسن: أنه رأى سُليماً وقد جفا عليه القلم؛ فإلى أن قطّه جعل يحرك شفتيه؛ فعلم أنه يقرأ أثناء إصلاحه القلم؛ لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ، أو كما قال. مختصر تاريخ دمشق (3/ 413)
نعم، فإن اشتغلت اليدان؛ فالقلب واللسان في شغل أيضاً.
4_ قال سهل الإسفرائيني: حدثني سليم أنه كان في صغره بالري، وله نحو عشرين سنين، فحضر بعض الشيوخ وهو يلقن فقال لي: تقدم فاقرأ. فجهد أن أقرأ الفاتحة فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني.
فقال: لك والدة؟ قلت: نعم.
قال: هل تدعو لك أن يرزقك الله قراءة القرآن والعلم. قلت: نعم.
فرجعت فسألتها الدعاء؛ فدعت لي. ثم إني كبرت ودخلت بغداد وقرأت بها العربية والفقه، ثم عدت إلى الري، فبينا أنا في الجامع أقرأ بمختصر المزني وإذا الشيخ قد حضر وسلم علينا وهو لا يعرفني. فسمع مقابلتنا وهولا يعلم ما نقول، ثم قال: متى يتعلم مثل هذا؟ فأردت أن قول له: إن كانت لك والدة قل لها تدعو لك، فاستحييت منه، أو كما قال. تاريخ الإسلام للذهبي (7/ 149)
نعم، لقد ضرب السلف رحمهم الله تعالى أروع النماذج في ذلك، حتى أصبحت تطالع في المصنفات ما يجعلك تكثر من الترحم عليهم؛ فأي رجال هم، تالله إنهم مفخرة وأي مفخرة.
أولئك أبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وإليك طرفاً من أقوال السلف الصالح رحمهم الله في اغتنام أوقاتهم:
_ قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء، ندمي على يومٍ غربت في شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزددْ فيه عملي. (قيمة الوقت لأبي غدة (27)
_ _وقال الحسن: أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم حرصا على دراهمكم و دنانيركم. (قيمة الوقت لأبي غدة (27)
_ وانظر في الحادثة العجيبة مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله، وهو في النزع يشغف بالعلم (قيمة الوقت لأبي غدة (28)
_ والأَعجب أنه حين توفي ابنه أوكل من يقوم على تجهيزه ودفنه؛ لأنه يحضُر درساً لأبي حنيفة، فخشي أن يتحسَّر على ذلك. (قيمة الوقت لأبي غدة (30)
فالنماذج تطول.
وإياك أيها البطَّال من تضييع وقتك؛ فتغرم، أو تضييع أوقات أهل العلم؛ فتأثم.
ومن رام الزيادة؛ فلينظر لجمل الكتب في الإفادة (قيمة الوقت للشيخ العلامة أبي غدة رحمه الله)
3_ أجوبة العالم المفحمة:
قال الداودي رحمه الله عنه: (وسأله شخصٌ: ما الفرق بين مصنفاتك، ومصنفات رفيقك المحاملي؟ _ مُعرِّضاً بان تلك أشهر.
فقال: الفرق أن تلك صُنِّفت بالعراق، ومصنفاتي صنفت بالشام) (1/ 203)
قال مُقَيِّدُه غفر الله له:
فيه مسائل:
الأولى: من هو المحاملي وما قيمة مصنفاته؟
هو أبو الحسن أحمد بن محمد الضبي المحاملي شيخ الشافعية (ت 415هـ) كان منقطع النظير في الذكاء. من شيوخه أبو حامد الإسفرائيني، حتى قال عنه: هو اليوم أحفظ للفقه مني. تاريخ بغداد (4/ 373)
والمحاملي نسبة إلى عمل المحامل الذي يركب فيها في السفر.
وهو يُعدُّ من قران أبي الفتح سليم الرازي، وهما معاً أخذا الفقه عن أبي حامد ولكل منهما تعليقه عنه
ومصنفاته: المجموع، والمقنع، والقباب، وهي كلها في فقه الشافعية. وصنف في الخلاف أيضا ًً
وقد ترجم له السُّبكي في طبقاته، وعَدَّ له من الغرائب في المذهب؛ فطالعه (4/ 48) برقم (265)
الثانية: فطنة العالم من الوقوع في أقرانه وأهل الفضل:
لقد كان الشيخ أبو الفتح الرازي رحمه الله فطناً في هذا السؤال؛ فقد يكون هذا السائل أراد سوءً ووقيعة بأهل العلم؛ لينتقص منهم؛ ولكنَّ جلالة العلم وحرمته وقفت سداً منيعاً أما هذا السائل، وجعلته لا يظفر بمراده، وفيه بيان صرف النظر عن مثل هذه الأمور التي لا تنفع في المقارنة بين أهل العلم؛ فحسب أن العلم قَسْمٌ، يُقسِمهُ الله بين عباده، والله يوفق لكلٍّ بابه في منفعة الإسلام والمسلمين.
فرحم الله أبا الفتح، ما أسدَّ رأيه، وأبعد نظره، وهكذا فليكن علماء هذا الزمان.
الثالثة: في الحكم على الكتب:
ينبغي لطالب العلم قبل أن يحكم على الكتب، أن يعرف الملابسات التي كانت تحفُّ به وقت تأليفه؛ وزمنه، فقد تلومه وله عذر في ذلك.
وما أروع قول ابن الأثير حين اعتذر عن أبي عبيدة حين ألف أوراقاً في غريب الحديث قال: (ولم تكن قِلَّتُهُ لجهله بغيره من غريب الحديث، وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن كلَّ مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، ومبتدعٍ لأمر لم يُتقدَّم فيه عليه؛ فإنه يكون قليلاً ثم يكثر، وصغيراً ثم يكبر.
والثاني: أن الناس يومئذ كان فيهم بقية وعندهم معرفة؛ فلم يكن الجهل قد عمَّ، ولا الخطب قد طمَّ.) النهاية (1/ 5)
والكلام في هذا الأدب يطول، وحسب المقام التنويه.
الرابعة: من أمثلة الإجابات المفحمة:
ما ذُكِر أن رجلاً قال لعلي رضي الله عنه:
ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية، وخلافتك أنت وعثمان منكدرة؟
فقال رضي الله عنه للسائل: لأني كنتُ أنا وعثمان من أعوانِ أبي بكر وعمر.
وكنتَ أنتَ وأمثالك من أعوانِ عثمان وأعواني. مرآة الجنان (1/ 54)
والله أعلم
وإلى مشاركة قادمة.
¥