وهذا ليس على العموم، بل هو حسب الأشخاص، وحسب الجدِّ والاجتهاد.
فإن قال قائل: جاء في بعض كتب الحديث أن السنَّ الذي يُشترط فيه التحديث بلوغ الخمسين! ولا بأس بالأربعين؟
فيقال: هذا غير مُسلَّم؛ فكم هم العلماء الذي حدَّثوا وصنَّفوا وانتفعت الأمة بهم وماتوا ولم يبلغوا الأربعين وهل أدل على ذلك من إمام الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله توفِيَّ وعمره 36سنة.
ومن علماء التفسير علوم القرآن:
ابن معاذ الجهني الأندلسي توفي وعمره 28 سنة، حتى قال فيه الداني: (كان حافظاً ضابطاً ثقة، تصدَّر في العربية وفي الفرائض والحساب)
ومن مصنفاته المشهورة: البديع في معرفة ما رسم في مصحف عثمان بن عفان.
وهو في فن كليات الرسم فيقول فيها (صـ 20): (إن ما): جميع ما في كتاب الله عز وجل من قوله (إنما) فهو في المصحف موصولاً إلا في موضع واحدٍ، وهو قوله في الأنعام (إن ما توعدون لآت) فإنه مقطوع .. إلخ ما ذكره هنا)
وأيضاً: كل ما في القرآن من ذكر المرأة؛ بالهاء إلا في سبعة مواضع ... وذكرها) (32)
وقد طبع هذا الكتاب النافع في كليات الرسم بتحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد عن دار عمار.
ومن علماء القراءات أيضا: الإمام شُعْلَة. توفي وعمره 33 سنة.
واسمع ما قال الذهبي رحمه الله فيه: (الإمام المقرئ العلامة، الذي اختصر الشاطبية، كان شاباً فاضلاً صالحاً محققاً، يتوقَّد ذكاءً، عاش ثلاثاً وثلاثين سنة)
ومن مصنفات غير شرح الشاطبية: الناسخ والمنسوخ في القرآن.
قال ابن رجب عنه: (وكلامه فيه يدل على تحقيقه وعلمه) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 256)
وأختم بالثالث: الإمام أبي الفتح السِّيرافِي توفي وعمره 28 سنة.
يقول الزِّرِكْلي (7/ 96): (فهذا عالم مفسِّر، عالم بالنحو)
وقال صاحب هِدْية العارفين (6/ 142): (صنَّف (تقريب التفسير) في تلخيص الكشاف)
فقلي بربك: ومن يقدم على تقريب الكشاف إلا قد بلغ في العلم شأواً عالياً.
ثم هذا القول اعترض عليه أكابر أهل العلم.
_ يقول القاضي عياض رحمه الله: (هذا لا يقوم له حجة بما قال، وكم من السلف المتقدمين، ومن بعدهم من لم ينته إلى هذا السنِّ، ولا استوفى العمر، ومات قبله، وقد نشر من العلم والحديث ما لا يحصى) الإلماع (200)
_ وقال الحافظ ابن حجر: (أما الأداء؛ فقد تقدَّم أنه لا اختصاص له بزمن معين، بل يقيد بالاحتياج، والتَّأهُّل لذلك، وهو مختلف باختلاف الأشخاص) نزهة النظر (206)
وفيما ذكر كفاية، والحمد لله.
وانظر بتفصيل ماتع وجميل: كتاب العلماء الذين لم يتجاوزا سِنَّ الأشُدِّ للشيخ المحقق علي العمران نفيس (ومنه غالب النقل).
وممن طلب العلم وهو كبير:
_ صالح بن كيسان،قال الحاكم فيه: (ابتدأ التعليم وهو ابن سبعين سنة) تهذيب التهذيب (4/ 400)
_ الكسائي: قال عنه الفرَّاء: إنما تعلم الكسائي النحو على كِبَر. (انظر: السير 9/ 131) وتاريخ بغداد (11/ 321)
_ القفَّال: طلب العلم وهو ابن ثلاثين سنة. انظر السير (17/ 405)
_ ابن حزم وطلبه وعمره (26 سنة). انظر: السير 18/ 184)
_ العِزّ بن عبد السلام: لم يشتغل بالعلم إلى على كِبَر. طبقات المفسرين (1/ 231) وفيه قصة.
وانظر مقالة فائقة رائقة من كتاب المنفلوطي (الأربعون) من النظرات (3/ 254)
بعض الأعمار عندهم بالنسبة إليهم كبير، وفي زماننا ربما ليس بالكثير، فسبحان من قسَّم العلوم كما قسم الأرزاق، فاللهم ارزقنا علماً كعلمهم، ونفعاً كنفعهم، وصلاحاً كصلاحهم.
2_ قيمة الوقت عند العالم:
قال الداودي رحمه الله عنه: (وكان ورِعاً زاهداً، يحاسب نفسه على الأوقات، لا يدعُ وقتاً يمضي عليه بغير فائدة) (1/ 202)
قال مُقَيِّدُه غفر الله له:
ما أحلى اغتنام الوقت في طاعة الله تعالى. وما ألذ صيد ذلك والتفنن في استغلاله.
ومن أحوال أبي الفتح في استغلاله الوقت:
¥