تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أحبتي الكرام في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيطِ عند الميقات، وهلتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطوافِ بالكعبة المشرفة، والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع الرَحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} فإلي كل من حج البيت العتيق، إليك هذه الوقفات من قلب محب لك شفيق، فأنت والله أعز علي من أخي الشقيق، فتقبلها مني واقبلها من فؤاد تقطع قلبه وسالت بالعبرة عينه، وإلى أولى هذه الوقفات ...

الوقفة الأولى: يا من حج البيت العتيق، وجئت من كلِ فج عميق، ولبيت من كل طرفٍ سحيق، ها أنت وقد كَمُلَ حجك وتمَّ تفثُك بعد أن وقفت على هاتيك المشاعر، وأديت تلك الشعائر، ها أنت تتهيأ للرجوع إلى ديارك احذر كل الحذر من العودة إلى التلوثِ بالمحرمات، والتلفُّع بالمَعَرَّات، والْتِحَافِ المسبَّات {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} فإياك إياك أن تهدم ما بنيت، وتُبدد ما جمعت، وتنقض ما أحكمتم.

الوقفة الثانية: يا من حج بيت الله الحرام، اشكر الله على ما أولاك، واحمده على ما حباك وأعطاك، تتابع عليك بِرُّه، واتصل خيرُه، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمت نوافله {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فظُن بربك كلَ جميل، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل، وقوّي رجاءك بالله في قبولِ حجِك، ومحْوِ ما سلف من ذنوبك، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قال الله تعالى: أنا عند ظنِ عبدي بي " [أخرجه الشيخان] فهنيئًا لك حجُك وعبادتُك واجتهادُك.

الوقفة الثالثة: يا من حج البيت الكريم: لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية، ولبست بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من العودةِ إلى الأفعال المخزية، والمسالكِ المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنةِ تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئةِ بعد الحسنة، وإن من قبول العمل الصالح إتباعه بعمل صالح.

الوقفة الرابعة: إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحجُ المبرور؟ قال: أن تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، فليكن حجُك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكة، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات، واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ الأكمل، والعقلِ الأرزن، والوقارِ الأرْصَن، والعِرض الأصون، والشِيَمِ المرْضية، والسجايا الكريمة، ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك، كريمَ المعاشرةِ لأولادك، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المُضْمَرُ منه خيرٌ من المظهر، والخافي أجملُ من البادي، فإن من يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقًا من استفاد من الحجِ وأسراره ودروسه وآثاره.

الوقفة الخامسة: الحج بكل مناسكِه وأنساكه يعرفك بالله، يذكرك بحقوقه وخصائصِ ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه، يعرفك ويذكرك بأن الله هو الأحدُ الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في طلب الحاجات، فكيف يهون عليك بعد ذلك أن تصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء والاستعانةِ والذبح والنذر إلى غيره؟ فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشركِ الصريح والعمل القبيح، أي حج لم حج من يأتي المشعوذين والسحرة، ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائمَ والحروز؟ أين أثرُ الحج فيمن عاد

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير