قيل ذكر ذلك في شرحه على (صحيح البخاري) (كتاب المرضى والطب).
أدلة أخرى على جواز الكتابة على الجلد، ما بين العينين، وعلى الرقبة:
فمن ذلك ما رواه البخاري رحمه الله تعالى وهو حديث طويل جداً نكتفي بالشاهد منه قال: ((. . . قال أبو سعيد فإن لم تصدقونى فاقرءوا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتى، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا قد امتُحِشُوا، فَيُلْقَونَ فى نَهَرٍ بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة، فينْبُتُونَ فى حافتيه كما تَنْبُتُ الحبة فى حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظِّلِّ كان أبيضَ، فيخرجون كأنَّهم اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة هؤلاء عُتَقَاءُ الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه)) (15).
وفي رواية أخرى عنده أيضاً: ((. . . فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عُتَقَاءُ اللَّهِ الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. . .)).
وفي رواية عند أحمد بلفظ: ((فَيُكْتَبُ فى رِقَابِهِمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ عز وجل ثم يدخلون الجنة فيسمَّون فيها الجهنَّميِّينَ)) (16).
قلت: في هذه الرواية تفسير لمعنى الختم، وهو الكتابة.
وفي رواية أخرى عنده من طريق أنس رضي الله عنه: ((. . . وَيُكْتَبُ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ هؤلاء عُتَقَاءُ اللَّهِ عز وجل فيذهب بِهِم فيدخلون الجنة فيقول لهم أهل الجنة هؤلاء الجهنَّميُّونَ فيقول الجبار بل هؤلاء عُتَقَاءُ الجبار عز وجل)) (17).
ووجه الدلالة في روايات البخاري هو قوله: (في رقابهم الخواتيم) التي هي الكتابة في روايات أحمد، والدارمي؛ فدل هذا على أن الكتابة على الجلد سواء كان جلد الرقبة، أو ما بين العينين ليست مذمومة شرعاً، ولا مستقبحة، ولا مستكرهة، بل هي كتابة تشريف، وتفضل ونعمة.
مسألة وجوابها:
أليست الكتابة على أجساد المرضى، وفي أكفهم، وعلى صدورهم من أفعال السحرة (؟)، أليس في هذا تشبه بهم (؟)
فهل يُعَدُّ الكاتب على جلده، أو على جلد المريض متشبهاً بالسحرة (؟؟) وهل الكتابة على الجلد من أعمال السحرة، وأفعالهم (؟)
والجواب: قد بيَّنَّا من قبل أن الكتابة على الجلود أمر قد جرت به العادة عند العرب، والمسلمين، فقد اتخذوا الجلود، والعظام؛ وسيلة للتدوين، وحفظ العلوم، وكتابة الوحي المنزل من السماء؛ فليست الكتابة على الجلود من أفعال السحرة أصلاً، فهم في هذا يجرون على ما جرت به العادة، ودعت إليه الضرورة، وتعارف عليه الناس في هذا الأمر.
والسحرة يكتبون بالمداد المباح، وبالزعفران، ويتخذون الأداوة، ويكتبون على الرقاع، والقراطيس، والكاغد (18)؛ كما يكتبون على الجلود؛ فمن قال بأن الكتابة على الجلد فيها تشبه بهم، لزمه شرعاً أن يحرم الكتابة بالمداد المباح، والزعفران، والكتابة على الكاغد، والقراطيس، والجام (19)، فهذا كذاك لا فرق.
والسحرة يكتبون على الكاغد، والقراطيس ويعطونها المرضى يذبونها في الماء ثم يشربونها، ويتنشرون بها؛ فهل نحرم الكتابة على الكاغد، ومحو، وإذابة المكتوب في الماء (؟؟)، ونجعل من كتب شيئاً من القرآن بالزعفران؛ وأذابه، وغسله بالماء، وشربه، واستشفى به متشبهاً (؟)
كذلك هم يقرؤون الرقية، والقرآن على المرضى لِيَلْبِسُوا على الناس أمرهم، ويُعَمُّونَ على الدهماء حالهم، وطرق علاجهم الشركية، فتعمى عليهم في شأن السحرة الأنباء، ويلتبس عليهم الأمر، فهل نترك قراءة الرقية، والقرآن على الناس، ومن به جِنَّةٌ؛ ومن هو مَطْبُوبٌ، لأن السحرة كذلك يفعلون (؟).
كذلك هم يكتبون في الأواني بالمداد المباح، وبالزعفران، ثم يلقون عليها الماء، أو يغسلونها بماء المطر، أو مياه الآبار، والأنهار؛ فهل يا ترى من فعل مثل هذا عُدَّ بهم متشبهاً، ولطرقهم سالكاً (؟).
¥