وجه الاستدلال: أنه لو كان المزمار حراماً سماعه لما أباح صلى الله عليه وسلم لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حراماً لما أباح لنافع سماعه، ولأمر صلى الله عليه وسلم بكسره، ولم يفعل شيئاً من ذلك، وإنما تجنب سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا؛ كتجنبه الأكل متكئاً (101).
ونوقش وجه الاستدلال من عدة أوجه: سبق ذكرها عند استدلال الجمهور بهذا الحديث (102).
الحديث الثاني:
عن عائشة - رضي الله عنها -قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار (وفي رواية: قينتان) من أيام منى، تدففان وتضربان تغنيان بغناء (وفي رواية: مما تقاولت، (وفي أخرى تقاذفت) الأنصار يوم) بُعَاث (103) وليستا بمغنيتين فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم متغشٍ بثوبه، فانتهرني (وفي رواية: فانتهرهما) وقال: مزمارة (وفي رواية: مزمار الشيطان) عند (وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت) رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي رواية: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: دعهما) يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا فلما غفل غمزتهما فخرجتا"متفق عليه (104).
وجه الدلالة: أن في إنكاره صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه عند ما قال: "أمزمار الشيطان عند رسول الله" حُجَّة على إباحة الغناء والمعازف (105).
واعتُرض على هذا الاستدلال: بأن في "هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق رضي الله عنه"مزمار الشيطان" والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري عليه مُعَلِّلاً ذلك؛ بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، وكان لعائشة - رضي الله عنها - لُعب تلعب بهن، ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع، كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار" (106).
كما أن النبي صلى الله عليه وسلملم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه قوله "مزمار الشيطان"، وإنما أقرَّ الجاريتين؛ لأنهما غير مكلفتين، وفي بيت جارية حديثة السن، وكان ذلك يوم عيد، وكانتا تغنيان بنشيد الأعراب في الشجاعة ونحوها (107)، ولم يكن ذلك بآلات الطرب والمعازف التي تنوعت مع مرور الزمن، خاصة في هذا العصر الحاضر، وإنما كان بالدف الذي هو أخفها، وقد رُخِصَ فيه مالم يُرَخَّص في غيره.
ولم يكن بغناء فاحش يحرك الغرائز، كما هو موجود في الأغاني المعاصرة التي تدعوا إلى الرذائل وتحارب الفضائل.
فالخلاصة: أن هذا الحديث لا دلالة فيه على إباحة المعازف، فإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه مُنْصَبٌّ على أن ذلك كان في حق جوار غير مكلفات، وفي يوم عيد، وفي آلة يرخص فيها في بعض المناسبات، وفي غناء مباح لا فحش فيه - والله تعالى أعلم -.
كما أن أبا بكر رضي الله عنه ليس هو الذي سمى الغناء وما معه من دف مزمار الشيطان، وإنما سماه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله: (نهيت عن صوتين فاجرين: صوت عند نغمة لهو، ولعب ومزامير الشيطان ... ) (108).
ثالثاً: الأثر:-
1) أن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كان له جوار عوَّادات، وأن ابن عمر - رضي الله عنهما - دخل عليه وإلى جنبه عود فقال: "ما هذا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر رضي الله عنه فقال: "هذا ميزان شامي"، قال ابن الزبير رضي الله عنه: "يوزن به العقول".
2) أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهكان لا يرى بالغناء بأساً، ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره.
3) أن معاويةوعمرو بن العاصسمعا العود عند عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم (109).
هذه بعض الآثار عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكر الشوكاني عدداً ممن نُسب إليهم سماع ذلك، من الصحابة والتابعين وغيرهم (110).
وجه الدلالة من هذه الآثار: أن بعض الصحابة ثبت عنه أنه سمع صوت المعازف، ومنهم من نفى البأس عنه، فدل ذلك على إباحة استماع المعازف.
¥